أفئدة فارغة.: بقلم: سيد الوكيل

 "شعور بالغياب، وابتعاد عن الحقيقة، يعيشه العاشق في مواجهة العالم"

رولان بارت

***

أفئدة فارغة. بقلم سيد الوكيل



 

سأل أحد المتصوفة تلميذه: لماذا يخشى بعضنا الإيمان؟

أجاب التلميذ: خشية المسئولية.

 فقال الشيخ: بل خوفًا من التلاشي والذوبان والفنائية.

المغزي: أن رحلة العشق في مراتب الصوفية هي حالة تسامٍ روحي تصل إلى الوجد. وعندما يصبح الوجود البشري رهن بوجود كلي وأعلى، يصل الشعور إلى ما يشبه مفارقة الروح للجسد، حتى تفنى الذات الإنسانية في الذات الإلهية تمامًا. إنه التماهي في وجود كلي أكبر، لا يزول ولا يضيق بنا ولا يهجرنا.

ولكن ماذا لو كان هذا العشق تماهيًا، في وجود بشري محدود وزائل؟

 ذلك ما أود الحديث عنه.

فالعشق بين البشر أيضًا يبدأ بالإيمان بوجود آخر جاذب ومؤثر، حتى لا يمكننا مقاوته، وعندما نصل فيه للوجد (أي تواجد ذواتنا في ذات الآخر) ويصبح وجودنا رهن بوجوده، نكون قد وصلنا إلى معنى الغرام بلا انتباه للفخ اللغوي. حيث الشائع عن الغرام أنه أسمى درجات العشق؛ لكنه في جذره اللغوي (غَرِمَ) أي (خَسَرَ) أقصى درجات الخسران. هكذا نبدأ رحلة عذاب مدمر إذا حدث وفقدنا من نحب، أو ضاق بنا ذرعًا لسبب أو لآخر وهجرنا. لأننا لم نخسره فحسب. بل خسرنا معه ذواتنا. ولا غرابة أن يترادف معنى الغرام بعد العذاب على نحو ما نرى في قوله تعالى:"وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا"

 المشكلة ليست في خسارة الحبيب وحسب. بل في الفراغ الذي يخلفه الفقد في روحنا. عندئذ سنمضي في الحياة بأفئدة فارغة، وهو شعور يفقدنا معنى الوجود. نوع من الموت النفسي كذلك الذي شعرت به أم موسى عليه السلام، بعد أن اضطرت إلى إلقاء وليدها في اليم، فأصبح فؤادها فارغًا، لولا أن ربط الله عليه.

عزيزي العاشق، إياك أن تردد لحبيبك كلمات من قبيل :(أنت حياتي -لقد ملكت روحي -لا يمكنني أن أعيش بدونك -أعبدك) فمثل هذه التعبيرات التي نرددها على سبيل المجاز، تستقر في لاوعينا ومع الوقت تصبح حقيقة. فالمخ البشري، آلة عمياء، تعمل في خدمة احتياجاتنا، ومشاعرنا، حتى لو كنا نرددها على سبيل المجاز. فمن قال إن المجاز بعيدًا عن الحقيقة!!

 إن كل كلمات الأغاني وقصائد الشعر وحكايات الحب. تبدو مجرد معان مجازية؛ لكن عندما نرددها ونحن في حالة حب. تصبح حقيقة. بسبب  ارتباك حواسنا واضطراب هويتنا حتى أننا لا نعرف وجودنا من وجود من نحب.    

يقول وديع سعادة: لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصًا نحبه، ألم نكن نمشي على قدمينا لا على قدميه؟

هذا المقطع يحمل سؤالاً يبدو بسيطًا، لكنه محيّر، وموغل في التأمل الفلسفي، فالشاعر يتكلم عن فقد الحبيب، لكن قبل هذا الفقد، كان ثم درجة من التماهي بين الحبيبين تستهدف اكتمال الأنا بالآخر، نوع من الحلول الذي يتولد مع الوقت يفضي إلى زعزعة الأنا، وإزاحتها حتى تغيب. عندئذ تغيب الحقيقة. لأن إدراك الحقيقة رهن بحقيقة ذواتنا. إن المحب الذي لم يعد يعرف إن كان  يمشي بقدميه أم بقدمي المحبوب في قصيدة وديع سعادة. غابت عنه ذاته بغياب من أحب. هكذا يصل بنا الشعر عبر لغته المجازية إلى التفسير الأعمق للعشق، كونه حالة من الغياب. لكن المفارقة تكمن في أن الشعر أيضًا -بوصفه خيالاً بديلاً للواقع - هو العشق نفسه. في ذلك يقول شيكسبير: المجنون، والعاشق والشاعر جميعهم مصنوعون من مادة الخيال. هذا يفسر لنا لماذا ينفرد الشعر وحده بأقسى معاني العشق وأحلاها؟

معاني العشق في الشعر والحكايات والأغاني، تتحول إلى نماذج، تقر في لاوعينا عبر التاريخ، وعند أول بادرة حب، تتجسد لنا حقيقة نعيشها بكل ما فيها من نشوة وألم.  

سمعنا الكثير عن حكايات عشق أحمد رامي لأم كلثوم، لكنه لم يحظ بالوصال كما يقال، فكثرت في قصائده وأغانيه معاني الصد والهجران والجفاء والحرمان. ظل هائمًا في وجد لا ينتهي. وما أعجب تعبيراته وهو يستعطف حبيبته أن تمعن في تعذيبه.  في أغنية (سهران لوحدي) يحن إلى أيام الجفاء والهجر ويتمنى حسد الحاسدين، ولوم العوازل، ويتوق لأن يكتوي من جديد بنار الحب.

إن توق العاشق هنا إلى تعذيب المحبوب له، ليس رغبة مازوخية كما يُظن، وإنما رعبًا من هذا الفراغ الذي سوف يقطن أعماقه إن ذهب المحبوب بنعيمه وجحيمه. هكذا يصبح العذاب موضوعًا يحتل مساحات الوعي لدى العاشق ليملأ به فراغ ذاته. إن عذاب الحب يبقينا على الحياة أملا في الوصال. كما يمكن أن يمنحنا بصيرة لما نحن عليه من فراغ، فنستعيد ذواتنا ونشفى. يحدث هذا للعاشق فيما يشبه التحفيز لغريزة البقاء في مواجهة الموت النفسي الناجم عن فراغ الذات، والذي يمكن أن يفضي إلى موت حقيقي.

كانت (أوفيليا) فتاة رومانسية تحب الفن والشعر؛ فتعلقت بالنماذح العشقية التي عرفتها عن قصص الحب وأشعاره، فعندما وقعت في غرام (هاملت) كانت تبحث عن جنة العشق الخيالية. عاشت (أوفيليا) مجاز الحب لا حقيقته. وكان (هاملت) في المقابل يعيش ضلالاته الخاصة عندما استبدت به الكراهية لأمه وعمه ظنا أنهما قاتلا أبيه. الحب والكراهية لا يلتقيان أبدًا، لهذا عانت (أوفيليا) فراغًا أفضى بها إلى الانتحار.

هكذا هو العشق، مخيلة واسعة، متاهة، هوة متأهبة لابتلاع صاحبها. يكون فيها المعشوق ليس لحمًا ودمًا، بل صورة ضخمة كونها العاشق من رتوش النماذج العشقية الموجودة قبلاً داخل تلك المخيلة الجمعية، وقد أضفى عليها سمات إلهية، حتى أنه في أحيان كثيرة يسميه (المعبود) ليبرر لنفسه نزعته الفنائية.

بعض الفلاسفة وعلماء النفس يرون الحب والموت وجهي عملة واحدة. أما باتريك زوسكند صاحب رواية ( العطر) فيرى أن الموت رفيق الحب، فلا نهاية للحب إلا بالموت أو هكذا يظن العاشق. وكل بطلات روايته اللاتي وقعن في الحب كان مصيرهن الموت، لأن حبيبهن امتص عطرهن، حيث يرمز العطر في روايته إلى رحيق الحياة، الذي يذهب بهجر الحبيب لحبيبه.   

يقول رولان بارت في كتابه شذرات من خطاب العشق عن الهجر: "على كل حال وأنا مهجور وذائب، لا مكان لي في أي مكان، وفي المقابل، لست أنا، لست أنت، ليس الموت، وليس ثمة مادة للحديث مع الآخر"

إنه خواء مفزع وفراغ مروع، بل أن رولان بارت يرى أن فعل مخيلة العشق في حد ذاته سواء أن وقع الهجر أو لم يقع، هو هدم وجودي، فالهلاك يحدث في الحالتين.

إذن.. ما الذي قد يفضي بنا إلى جحيم العشق؟

في كثير من الأحيان، تكون الرغبة في الحب، احتياج وإحساس بالنقصان، يحرك رغبة عميقة في فرار الأنا إلى الآخر كما يراه ثيودور رايك صاحب كتاب ( الحب، الشهوة، الأنا) فالمحب قد يلجأ لواحة الغرام بوصفه ملاذًا تستريح فيه الذات المتعبة، ولذلك فإن للحب أعراضًا تظهر على المحبين قبل الوقوع فيه، أبرزها الاستياء من الذات وسوء تقديرنا لها. فإذا فكرنا في اللجوء إلى واحة الحب للفرار من هذه المشاعر. فمن المحتم أننا نفر من الرمضاء إلى النار. لذلك يحذر( ثيودور) من اللجوء إلى الحب في مثل هذه الحالة لسبب بسيط. فعلى الرغم من الشعور الجارف للحنين إلى واحة الحب، فهي في النهاية ليست واحتنا بل واحة الآخر الذي سنقدم له ذواتنا قربانًا.

 المعضلة أن الحياة الفارغة من الحب، تساوي العدم أيضًا. فإيلا روبشتاين، بطلة رواية (قواعد العشق الأربعون) لإيليف شافاق، لم تكن تحب حياتها غير السعيدة، في زواج جاف أفضى بها إلى شعور بالفراغ والعدمية، وأثناء ذلك قرأت حكاية شمس الدين التبريزي، ووقفت على تفاصيل رحلته الداخلية المضنية التي مكنته من البصيرة بذاته، وكنه وجوده. فكرت (إيلا) لو أن العالم على هذه الدرجة من الوحشية والجفاء فإن الحب ضرورة وجودية أيضًا. ما أحوجنا فعلاً إلى الحب. لكن علينا أولاً أن نعطي لوجودنا معنى لكي نكون جديرين بحبنا للعالم.. هكذا أدركت ( إيلا) أن الخلاص الحقيقي يبدأ من داخلها. لابد أن نتعرف على نقصنا وعجزنا واحتياجاتنا الإنسانية الأصيلة التي أساسها الحب. فليس عيبًا أن نشعر بهذا الاحتياج، فهو غريزي وأصيل فينا، لكن هناك فرق كبير، بين أن نذهب إليه، باختيار وبصيرة لنكتمل به، وبين أن نلجأ إليه عميانًا لا ندري شيئًا عن أنفسنا.

 البصيرة بوجودنا الإنساني المحدود ضرورة حتى لا تتسع المخيلة وتضفي على المعشوق ألوهية تزيد من نقصنا ودونيتنا وجوعنا -الذي لا يشبع - للاكتمال بالآخر.

تعليقات