فن كتابة الأحلام

سيد الوكيل

 

يمكن التعرف على مستويات وطرائق مختلفة في تفعيل الخيال السردي. صحيح أن الخيال، مهما كان جنوحه، يظل مرتبطا بالواقع. حتى أصبحت الواقعية مقدمة على كل جديد في اتجاهات الأدب، كما نقول: الواقعية السحرية، أو الواقعية الرقمية، أو الواقعية الافتراضية. فالواقعية، كأساس فلسفي ارتبطت بالتفكير العقلاني أو العلمي في مواجهة التفكير الميتافيزيقي.

 وعبر التاريخ الإنساني، كانت الأحلام وتفسيراتها هاجعة في ظلال التفكير الميتافيزيقي، جزءأ من مهام الكهنة والعرافين، حتى جاء (سيجموند فرويد) الذي نشر في العام 1900 أولَ محاولة علمية لدراسة الحلم بوصفه نشاطًا نفسيًا للإنسان. وبهذا، تدخل الأحلام في سياق التفكير العلمي، وتنتج نظرياتها حول تشكل الحلم وآليات إنتاجه، وسيرورته، بل ومرجعياته. إذ أكد فرويد، على أن الحلم، مرتبط بالحياة الواعية؛ أو بمعنى آخر بالواقع المعيش. هكذا يصبح الحلم خلقًا خياليًا مرجعه الواقع كأي نص أدبي.   

بعد أن كتب نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) انتبه المبدعون إلى أن كتابة الأحلام  يمكن أن تكون فنًا يتجاور مع فنون السرد الأخرى. قد يكون قريب الشبه بالقصة القصيرة جدًا، إلا أنه متميز عنها في تقنياته ولغته.

 الأحلام هي أكثر آليات اللاوعي اشتغالاً في حياة البشر، لهذا فحضورها المصاحب للشخصيات الروائية والقصصية، يبدو أمرًا مألوفًا؛ كما أن مادة الحلم هي نفسها مادة الإبداع، سواء في لغته المجازية والرمزية، أو طاقته التخيلية. لهذا كانت الأحلام ومازالت موضوعًا أدبيًا.

 وقد  التفت السرياليون إلى أهمية توظيف اللاوعي وأليات إنتاج الحلم، وكتبوا بها قصصهم ورواياتهم، فجاءت مميزة في لغتها وعوالمها عن الأدب الواقعي. إذ أن السرياليين رأوا أن الانهماك في الواقع يعمق عزلة الفنان عن ذاته المبدعة، ومن ثم يتحول الإبداع إلى وظيفة فاقدة للروح. وتقوم فلسفتهم على إخضاع الكتابة لقوة داخلية تقهر الوعي، وتسمح بانفلات محسوبة للاوعي، فثم اعتقاد أن قوانين الواقع المعيش فرضت على الإنسان أن يعيش عبر أقنعة،  ويأتس استنطاق اللاوعي، لتحطيم هذه الأقنعة، وتحرير الداخل، بإطلاق الصور والأخيولات والرؤى السجينة فيه. وهذا يحتاج إلى تدريبات على الاستبطان واستقراء الداخل، مع قدر كبير من الشجاعة على مواجهته، واحترام مخرجاته، مهما كانت مؤلمة أو مخجلة أو حتى مخيفة وغير مفهومة، والكتابة هي أكثر وسائط إطلاقها على نحو آمن، ومن ثم، فكتابة الأحلام، هي استنطاق لللاوعي الذاتي، أي أنها كما الأحلام نفسها، تجربة ذاتية جدًا، لكن هذا لا يعني أنها ليست بلا جدوى للقراء. فثم مشتركات في الأحلام بين جميع البشر. 

 صحيح أن (كارل يونج) يتفق مع (فرويد) على ذاتية الحلم، نتيجة لأن اللاوعي الفردي يرتبط مباشرة بالسيرة الذاتية للفرد وبتجاربه الحياتية - وهذا في حد ذاته كاف لأن يجعلها تجربة إبداعية-  إلا أن (يونج) يؤكد على أن لغة الأحلام تستمد طاقتها الرمزية من عالم أبعد كثيرًا من الواقع المعيش والتجارب الذاتية، فترجع إلى عالم بدائي سحيق، قبل أن تبدأ الحضارة الإنسانية في تشكيل منظومة القيم والمحرمات والعادات والتقاليد الاجتماعية التي كونت النسيج الثقافي للمجتمعات وأفضت إلى التمايز فيما بينها؛  بما يعني أن هذه اللغة البدائية، كانت مشتركة بين كل البشر،  وهي مازالت كامنة على نحو رمزي في اللاوعي. ومن خلال الوقوف على رموزها يمكننا تفسير الأحلام، بل وقراءة هنات الوعي وزلات لسان، وتعبيرات الجسد اللاإرادية.

اللغة البدائية للحلم، تفسر لنا وجود أحلام مشتركة في موضوعاتها بين البشر. فمثلاً: أحلام السقوط من المرتفعات، والاحتجاز في الأماكن الضيقة، أو التيه في الأماكن المظلمة، أوالتعري بين الغرباء، أو الخوف من خطر النار التي تعتبر من أشهر الرموز  البدائية التي حظيت بالاهتمام في التحليل النفسي على نحو ما تناولها جاستون باشلار. لكن تظل أهمية الحلم مرتبطة برمزيته لا بموضوعه. ومع ذلك، فحتى الأحلام المشتركة في موضوعاتها، تحظى بخصوصية ترتبط بالتجارب النفسية لحالميها. فأطفال المدارس مثلاً، قد تروادهم أحلام التأخر عن مواعيد المدرسة، أو التيه في الطريق إليها، أو نسيان شيء من مستلزماتها، كالحقيبة أو عمل الواجب. لكن تفسير مثل هذه الأحلام يعتمد على رمزية موضوع النسيان لا النسيان نفسه. فمثلاً: نسيان التلميذ للواجب المدرسي قد يعكس معنى إسقاطيًا لعقاب المدرس، هكذا ينتقم التلميذ من مدرسه ويتحرر من الخوف. و قد يكون نفس الحلم تعبير عن إحساس عميق بالذنب والتقصير لدى التلميذ، يرى ( فرويد) أنه ينشأ في طفولة مبكرة مع المرحلة الشرجية.

 وعلى أية حال، فالتشابهات في موضوعات الأحلام لا تنفي ذاتيتها. نتيجة لتماهي المسافة بين الذات والموضوع في الحلم.  وهذا التماهي، جزء مهم في تجربة الإبداع أيضًا. عندما يصبح موضوع النص مرادفًا لذات المبدع، ومن ثم يتمكن من التعبير عن ذاته في نفس الوقت الذي يعبر فيه عن موضوعه الواقعي.

مما سبق، نفهم أن الأحلام هي الممارسة الإنسانية الأقرب إلى تجربة الكتابة، وكأننا نكتب ذواتنا كل ليلة في الأحلام. وإذا كنا اعتدنا أن نحكي أحلامنا ونحاول تفسيرها، فهذا لقابليتها للحكي والتأويل، كأي تجربة واقعية معيشة. لهذا، ففكرة كتابة الأحلام ممكنة ومقبولة، ليس فقط لتوظيفها في العمل الأدبي، ولكنها يمكن أن تكون سردًا مستقلاً ومميزًا في حد ذاته، على نحو ما كتب نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) فأنتجت شكلها الخاص سواء في حجمها الصغير ودلالتها الوامضة، أو في لغتها الرمزية المفتوحة على التجربة الإنسانية الشخصية والعامة في نفس الوقت، أو في طاقتها التخيلية المتجاوزة لحدود الواقع.

قراءة الأحلام كما كتابتها، فهي من ناحية تجربة إنسانية مشتركة، لكنها تبقى على الجزء الذاتي لكاتبها. وهذا الجزء الذاتي، هو الذي يعطيها قابلية التأويل عند القراء، ويشلمها بالغموض والسحر. فمثلاً، الكثير من قراء نجيب محفوظ استخدموا آلية الإسقاط على الواقع الاجتماعي لتفسير أحلام فترة النقاهة؛ لكن الدكتور (يحي الرخاوي)، الذي جمع بين خبرة عالم النفس والأديب،  يدرك أن رمزية الحلم تمتد إلى زمن سحيق في الفكر الإنساني. فالزعيم في الحلم رقم (4) من أحلام فترة النقاهة، لا يشير إلى واحد من حكام مصر الحديثة فحسب، وليس له معنى الاستبداد والديكتاتورية، بل العكس. الزعيم معنى إنساني واسع لأسطورة البطل المنقذ، التي تتجلى في فكرة المهدي المنتظر، أو المسيح المخلِّص، ولكنه يمكن أن يكون المسيخ الدجال. أي أن الرمز  قد يحمل المعنى ونقيضه، بفضل آلية التمويه.

وهذا التركيب الخاص لسرد الأحلام، يجعله مختلفًا عن الواقعية السحرية، كون الأخيرة عملية توظيف لثراث الإنسانية الغرائبي، يغيب فيها المعنيين: الشخصي و الذاتي. كما أنه يختلف عن السيريالية التي تمثل بناءًا مجردًا من أي بعد واقعي، يحمل المضامين الانفعالية والفكرية على نحو تلقائي، وخارج عن أي انشغال جمالي أو موضوعي.

 أما الحلم فله سمات أكثر مرونة وتعقيدًا في نفس الوقت، حيث يلتبس بالوقائع والحقائق والأشكال، لهذا قد تبدو بعض الأحلام منطقية ومتماسكة فيمكن تذكرها وحكيها، ومن ثم محاكاتها سردًا. لكن علماء الفس يعتقدون أن ما نتذكره من أحلامنا لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدًا، أي أن ما نحكيه من الحلم بعد استيقاظنا، ليس هو بالضبط ما حلمنا به، بل تداعياته، بتداخلات من الوعي ومهارات الحكي وأساليبه، لهذا فحكي الحلم ممارسة إبداعية. أما كتابته، فهي إعادة إنتاج له بشروط أدبية. لكن عندما يصبح سرد الأحلام فنًا، فلسنا في حاجة إلى أحلام النوم لنكتبها، بل يمكننا صناعة نص حلمي كاملاً عبر استطناق اللاوعي، وتوظيف آليات إنتاج الأحلام. ولابد أن نجيب محفوظ في شيخوخته ونقاهته، لم يجلس ليتذكر كل هذه الأحلام ويكتبها، إنما هو أفاد من خبرته في استنطاق اللاوعي وتوظيف آليات الحلم.        

وسواء كانت كتابة الحلم مرجعها إلى حلم حقيقي، أو استنطاق يقظ للداخل، فهي تلتزم بحرفية السرد الإبداعي، في معالجتها لآليات الحلم ولغته التي لا تظهر بوصفها معاني، بل رموز وصور تنهمر في الفضاء الحلمي، كما أنها تظل ملتبسة بحيل اللاوعي من: تمويه وإبدال وتضخيم، وإنكار. كما أنها مكتنزة بالتأثيرات الشعورية كالألم والخوف والحزن والنشوة. ثم يأتي الخيال ليشمل كل هذا، وهو خيال بلا حدود، على حد ماوصفه شاكر عبد الحميد: من الكهف إلى الواقع الافتراضي.  فإذا كانت لغة الأحلام تحيلنا إلى خيال بدائي  كظلال تتراقص على جدران كهف، فإن ارتباطها بالتجربة الشخصية، تسمح لها بمقاربة الواقع المعيش، بل والواقع الافتراضي فائق القدرة.

 كتابة الأحلام لا تحقق إشباعًا جماليًا لكاتبها فحسب، بل تفضي به إلى تجربة نفسية وروحية خاصة، على مافيها من مواجهات مع النفس. ولأن لغة التخاطب المعتادة، يصعب عليها التعبير عن الرؤى الحلمية نظرًا لطبيعتها المنفلتة من المعيارية، فإن على كاتب الأحلام أن يكتشف أدواته التعبيرية بنفسه، عندئذ نحصل على نصوص غاية في الثراء والجمال. ولا أستطيع القول إن هذا يتحقق مع كل النصوص، فمستويات الغوص الداخلي متفاوتة في كتابة الأحلام، كما هي متفاوتة في أحلام النوم، فبعض الأحلام تكون قريبة من سطح الوعي فتطرح معناها ببساطة، وبعضها يكون عميقًا وغامضًا ومتشطيًا.

أحلام (فترة النقاهة) نجحت في أن تجعل كتابة الأحلام عملاً فنيًا مستقلاً في بنيته ولغته، يحقق مستويات من التعبير أكبر مما تتيحه القصة بإنهماكها في الواقع اليوميى والمعاش، فلم تعد تجربة وحيدة تخص نجيب محفوظ وحده، بقدر ماهي دعوة  للالتفات إلى أن سرد الأحلام شكل أدبي جديد، يمكن لأي منا أن يمارسه.

ويمكن أن نشير إلى بعض التجارب التي عملت على سرد الأحلام باعتباره فنًا أدبيًا. فهناك تجربة الكاتب محمود عبد الوهاب بعنوان (أحلام الفترة الانتقالية- 2013م) وهو عنوان يتشابه مع عنوان نجيب محفوظ، لكنه يشير إلى الفترة التي عاشتها مصر تحت حكم المجلس العسكري في أعقاب ثورة 25 يناير؛ لكنها لم تتوقف عند الوقائع والأحداث التي رافقت هذه المرحلة، بقدر ما عكست المشاعر المتراوحة بين الخوف والرجاء واليأس والمل، التي عاشها المصريون مع تجربة فارقة في حياتهم.

وهناك تجربة الكاتب شريف صالح بعنوان: (دفتر النائم-2016م)، وهي أقرب إلى أحلام اليقظة، كونها تستدعي سياقًا  كليًا ومترابطًا، ومن ثم فهى طويلة نسبيًا، وأقرب في بنائها إلى القصة القصيرة، رغم حرصها على الإفادة من لغة الحلم ورموزه وآلياته. أما (لمح البصر-2014م) فهي لكاتب هذه السطور، أفادت من التجربة الذاتية أكثر من أي شيء آخر. لكن المثير والمفاجئ معًا، تجربة الكاتب (مصطفى بيوميى) التى صدرت تحت عنوان: (أحلام سرية-1998م)، أي قبل أحلام فترة النقاهة  بخمس سنوات. وبذلك يكون مصطفى بيوميى –وحتى يثبت غير ذلك- أول من قدم إصدارًا كاملاً ومستقلاً للأحلام، وعلى الرغم من قيمتهاالفنية العالية، فإن قيمة نجيب محفوظ وعالميته، هي التي اعطتنا شرعية اعتبار سرد الأحلام فنًا أدبيًا. 



تعليقات