إبراهيم ناجي القاص المجهول



ماذا تعرف عن إبراهيم ناجي غير أنه شاعر الأطلال التي غنتها أم كلثوم؟

لا بأس أن تتردد طويلا كما ترددت أنا، لتبحث في ذاكرتك عن شيء آخر لإبراهيم ناجي.. ربما تتذكر بالكاد أن له أربعة دواوين شعرية هي:

وراء الغمام، 1934م.

ليالي القاهرة، 1944م.

في معبد الليل، 1948م.

الطائر الجريح، 1953م.

 

 المفاجأة أن لإبراهيم ناجي مجموعتين قصصتين. والآن كيف أسقطت الذاكرة القصصية هذا، ولماذا؟

لدي تصور مسبق. جرت العادة أن الشاعر إذا كتب سردا نقابلة بالإنكار والاستهانة، وهو نفس الأمر إذا كتب الناقد إبداعا، أو كتب المبدع نقدا... باختصار هذا هو الفكر الأحادي. فلا يمكننا تصور أن الذات المبدعة متعددة، لا يمكن حصرها في مسار وحيد.. إنها ذات متفاعلة، لو أطلقنا صراحها ستدهشنا بقدراتها.

وفي الإنسان طاقات اقتدار..... آه لو يعرف كيف تدار.

المشكلة تكمن في أن المبدع نفسه، لا يؤمن بتعددية ذاته المبدعة وقدراتها، لهذا فإن جانبا كبيرا من الظلم الذي وقع على القاص إبراهيم ناجي هو مسئول عنه.

هذا ما يلمسه الأستاذ الدكتور منير فوزي  في دراسة نادرة عن القاص إبراهيم ناجي. لكن الأمر لم يتوقف عند الجهد النقدي والتحليلي، بل يشمل جهد الجمع والتحقيق لتجارب إبراهيم ناجي القصصية التي كان يقدمها على استحياء.

بالنسبة لي، لاحظت في نصوص ناجي القصصية ما هو جدير بالقراءة ووضعها في ذاكرة القصة المصرية. مثلا اللغة القادرة على التجسيد المشهدي برغم شعريتها. القدرة على نكز الدلالات وتوزيعها بين جنبات القصة بدون مباشرة. الاهتمام بالأبعاد النفسية والثقافية للشخصية لتبدو حية مفعمة بالواقعية. هذا فضلا عن طاقة من الحيوية السردية تصول في الأزمنة والأمكنة بمهارة.

وقبل أن اترك الكلام لصاحبه الدكتور منير فوزي، أود الإشارة إلى البناء المشبع للقصة القصيرة، وهذه سمة ميزت معظم كتّاب القصة في هذه الفترة أمثال : يحي حقي ونجيب محفوظ ومحمود البدوي وإحسان عبد القدوس.. إلخ. في هذا الوقت كانت القصة بقوة رواية. كان ذلك قبل هواجس التفكيك والتقليص التي ألمت بالقصة في نهاية الستينيات بدواعي الكتثيف واللغة التلغرافية، والقصة الشعرية، والومضة وغير ذلك من صور الانهيار في المفهوم السردي للقصة القصيرة التي أفضت إلى انصراف جمهور القراء عنها.

نعرض جانبا من قصص  إبراهيم ناجي كما قدمها الدكتور منير فوزي في دراسة بعد جمعها وتحقيقها بعنوان ( أغنية ومزمار )    

 

 

 

 

مقدمة د. منير فوزي

 

يضم هذا الكتاب بين دفتيه مجموعة متنوعة من الأعمـــال القصصية التى كتبها ونشرها الأديب الشاعر الدكتور إبراهيـم ناجى (31 ديسمبر 1898 ـ 24 مارس 1953) . وإذا كان جلُّ المثقفين يعرفون ناجى حق المعرفة بوصفه شاعراً متميزاً ، فإن القليل ـ والقليل جداً ـ هم أولئك الذين يعرفون أن لناجى إسهامات فى إطار فن القصـة القصيرة ، تقارب إسهاماته فى الشعر ، وأنه أصدر فى حياته عملين ، الأول : مدينة الأحلام (1935) ، ودس فيه من إبداعاته القصصية ثلاث قصص قصيرةٍ له هى على الترتيب : مدينة الأحلام ، والنوافذ المغلقة ، والحرمان ، بالإضافة إلى ترجمته لقصتين قصيرتين من أعمال "بيرانديللو" و "دانونتزيو" وتلخيصه لرواية "تشارلز مورجان" : المنبع ، والثانى : أدركنى يا دكتور (1950) وهى مجموعة قصصية ضمت عشرين قصة قصيرة من أعماله التى نشرها من قبل فى الصحف والجرائد .

 

وهذا الكتاب يحوى نيفاً وعشرين قصة قصيرة لناجى ، منها ثلاث فقط سبق نشرها فى كتاب (مدينة الأحلام) ، ولكن نظراً لأن هذا الكتاب كان متنوعـاً فى مادته وغير مختصٍ بفن القصة القصيرة وحدها ، فقد آثرتُ أن أضم هذه القصص إلى ما جمعته لناجى من أقاصيص أخرى من مختلف الصحف والمجلات .

 

ويعود سرُّ اهتمامى بدراسة الفن القصصىّ عند ناجى إلى سببين : الأول أن النزعة القصصية مسيطرة على ناجى نثراً وشعراً ، وأن أهم قصائده ذات طابع قصصىّ ، كالأطلال التى يستهلها بأنها (قصة حب عاثر) ، والعودة وغيرها ، والثانى : شعورى بالظلم الفادح الذى وقع على شخص ناجى وانسحب إلى مجمل إبداعاته ، خصوصاً الجانب القصصىّ الذى حظى بظلمٍ كبير من جـانب النقاد ، حتى أن ناقداً قصصياً كبيراً كالدكتور سيد حامد النساج (رحمه الله) لم يتورع فى أن يجمع كل سلبيات الفن القصصىَ ويسقطها على ناجى وعلى قصصه فى ثمانى صفحات ، فى تحامل ظاهر وواضح . وهى للأسف الدراسة الوحيدة التى قامت على قصص ناجى حتى الآن ، ولم يفكر من بعدها واحد من النقاد فى مراجعة ما قاله الدكتور النساج ، أو يعكف على إعادة النظر فى أعمال ناجى ! .

 

لقـد عانى "ناجى" من الظلم البيِّن فى حياته ، وما عاناه بعد رحيله أنكى وأشد ، ويعود جزء من الظلم الذى وقع عليه إلى شخص ناجى نفسـه ، الذى حرص أن يقدم نفسه ـ على استحياء ـ بوصفه قاصاً ، يسجّل خواطر طبيب ـ أكثر منه اهتماماً برصد تقلبات الواقع وانعكاس ذلك على نفوس الشخصيات ومجريات الأحداث .

 

إن قراءة متأنية لمقدمة مجموعته القصصية (أدركنى يا دكتور) تكشف تهيب ناجى وحرصه على تقديم نفسه بصفته الوظيفية ، لا بصفته الإبداعية بدءاً من الإهداء (إلى زملائى الأطباء ، إلى مرضى القلوب ، إلى مرضى الأجساد ، إلى مرضى الأرواح ، إلى الشهداء الذين اكتظت بهم ساحة الحياة ، إلى الألى يتطلعون إلى السلوى وينشدون العزاء . أقدم هذه الاعترافات ، هذه التجارب ، هذه الأصداء ، لعلهم يجدون فيها ما ينشدون من راحةٍ لكروبهم ، وهدوء لقلوبهم) .

 

إن ناجى يصف قصصه هنا بأنها (اعترافات وتجارب) وهو أمر ليس صحيحاً تمام الصحة ، فالمجموعة تضم بينها ما لا يدخل فى إطار الطب والأطباء ، بل إن بعض هذه القصص تناولت قضايا مبتكرة وموضوعات جديدة أثرت فى عـدد غير قليل من كتاب الجيل اللاحق لناجى ، وكانت نواةً لبعض أعمالهم المتميزة التى قدمتهم للحياة الأدبية بوصفهم قاصين متميزين ، وهو ما تكشف عنه الدراسة التى ألحقتها بالكتاب وموضوعها : الفن القصصى عند إبراهيم ناجى .

أما عن مصادر هذه المجموعة فقد اعتمدت فى جمعها أولاً على دليل المرحوم الدكتور حامد النساج ، الذى تبين لى عقب جمع هذه القصص اشتماله على عددٍ كبيرٍ من الأخطاء ، منها أن هناك أعمالاً نسبت إلى ناجى وهى ليسـت من تأليفه مثل قصة (جحيم امرأة) التى نسبها له الدكتور النساج وهى قصة لمحمود تيمور وقد نشرت فى العدد الثالث والخمسين من مجلة القصة بتاريخ (5/12/1951) ، وكذلك قصة (صانع الأحلام) التى هى من تأليف "إبراهيم نوار" وقد نشرت فى العدد 973 من مجلة الإذاعة المصرية بتاريخ (7/11/1953) . ويبدو أن الخطأ فى نسبة هذه القصة مردّه للطباعة ، فإبراهيم نوار هو الاسم التالى لناجى ، غير أن الفاصل بين الاسمين تجاوز ناجى إلى قصة إبراهيم نوار ، كما تضافرت الأخطاء إذ أشار دليل الدكتور النساج إلى قصة (الليل) ونسبها إلى ناجى اعتماداً على ما نشر فى العدد السابع والأربعين من (المجلة الجديدة) بتاريخ (15/5/1935) ، والقصة من تأليف الكاتب الإيطالى "لويجى بيرانديللو" وترجمة إبراهيم ناجى ، وقد ُنشرت القصة ضمن كتاب (مدينة الأحلام) وشغلت الصفحات من (38 ـ 45) .

ومن الواضح تماماً أن الدكتور النساج لم يطلع على الكتابات النثرية المنشورة لناجى وهى كتاب "مدينة الأحلام" ومجموعة "أدركنى يا دكتور" ، وهو مايفسر إغفاله لهما فى قائمة المجموعات القصصية المطبوعة للمرحلة ، كما يفسر عدم وضع العلامة المميزة التى حددها الدكتور النساج والمبينة لصـدور القصة ضمن مجموعة قصصية معينة .

والمتابع للرصيد القصصى المنشور لناجى فى الصحف والمجلات يتبين له أن ناجى قاص دائم التبديل والتغيير ، فهو قد ينشر إحدى قصصه فى مجلة أو صحيفة ثم يعود ويعيد النظر فى صياغتها وإعادة هيكلتها ، بتغيير عنوان القصة (وهو ملمح واضح جداً فى قصصه) ، ومن ذلك على سبيل المثال قصص : الحمى الشوكية التى نشرها فى العدد الخامس والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/3/1951) ، وهى نفسها قصة (الضمير) المنشورة فى العدد الثانى من مجلة (حكيم البيت) بتاريخ (1/2/1934) ، وقصة (فى الريف) التى ضمتها مجموعة (أدركنى يا دكتور) الصادرة فى عام 1950 ، أعاد نشرها باسم (أغنية ومزمار) فى العدد الرابع والسبعين من مجلة القصة بتاريخ (20/10/1952) . وقصة (أحلام الموتى) من مجموعة (أدركنى يا دكتور) سبق نشرها فى العددين السادس والسابع من مجلة (الراوى) بتاريخ (16/7/1936) والعدد التاسع والعشرين من (المجلة المصرية) بتاريخ (15/4/1938) باسم (وراء الطبيعة) . كما أن هناك عدداً آخر من القصص لم يكتف ناجى بتغيير عناوينها فحسب وإنما قام بإعادة هيكلتها فنيـاً مثل قصة (ذكاء) المنشورة فى العدد الثالث من مجلة القصة بتاريخ (5/11/1949) والتى ُنشرت بوصفها أول قصة بوليسية لناجى ، أعاد ناجى صياغتها فى العدد السابع والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/4/1951) باسم (ذكاء نادر) .

 

ومعظم هذه التغييرات كان ـ عادة ـ ما يعقبها تعديلات خاصة بالضبط والإضافة والحذف أحياناً ، وهى ظاهرة تكشف عن سمةٍ مهمة من سمات ناجى القاص ، وهى حرصه الدائم على التجويد وعلى تقديم نفسه أديباً متمكناً مشاركاً فعالاً فى الحركة القصصية ، إذ إن هذه التعديلات غالباً كانت نتاج محاورات بينه وبين أصدقائه كتاب القصة الشبان فى ذلك الحين ، الذين كانت تربطهم به أواصـر صداقة ورابطة فكرٍ وحب .

ولعله مما يجدر الإشارة إليه أن هذه المجموعة من القصص التى تضمها دفتا كتاب قصصىّ لأول مرةٍ ، هى جزء من إنتاج الراحل إبراهيم ناجى ، والذى يأمل الباحث المحقق من خلال نشرها أن يعيد الناس نظرتهم لناجى ، ليس فقط بوصفه قاصاً وإنما بوصفه مفكراً استخدم فنوناً عدة للتعبير عن رؤية شديدة الخصوصية للعالم والتى تتمثل فى أن العالم كل لا يتجزأ وأن الحرمان والكبت لا يولدان غير الموت والدمار ، وأخطر أنواع الدمار دمار النفوس ، كما أنه لاشىء يدفع الرقى فى الحياة كالفن ، الذى وقوده المرأة وزاده التجربة وجوهره التجدد والتبدل .

              

أما عن المنهج الذى وضعتُ عليه هذه المجموعة ، فقد قمت بترتيبها ترتيباً زمنياً تصاعدياً طبقاً لتاريخ نشرها ، مبتدئاً بأقدمها ومنتهياً بأحدثها ، مع بيان قصير لكل قصة يوضح تاريخ نشرها وموضعه ، وبيان ما إذا كان قد تكرر نشرها أو تغير عنوانها وموضع ذلك وتاريخه إلخ .

 

وبالنسبة لعنوان المجموعة (أغنية ومزمار) وهو عنوان إحدى قصص ناجى المنشورة مع مجموعته "أدركنى يا دكتور" وإن كان بمسمى آخر هو (فى الريف) ، وقد أعاد ناجى نشر هذه القصة باسم (أغنية ومزمار) ، فإننى وجدت أن أنسب عنوان يصلح لقصص هذه المجموعة هو هذا العنوان ، على الرغم من عدم اشتمال المجموعة على قصة تحمل هذا الاسم ، وهو عنوان يحمل روح الشعر وجوهر القصة ، وأعنى الإيقاع والشعبية .

 

ويعلم الله وحده حجم المشاق التى تكبدتها من أجل جمع هذه القصص من أروقة المجلات والصحف القديمة ، التى لا يكاد يوجد الكثير منها كاملاً فى دار الكتب ، ذلك أنك إذا وجدت سلسلة أو دوريةً غالباً ما تجدها منزوعة الفرائد بسقوط غير عددٍ منها ، ويحدث أن يكون مطلبك فى هذه الأعداد المفقودة . غير أن اهتمام ناجى المفرط بتكرار إنتاجه ساعدنى فى أن أحصل على أغلب ـ إن لم يكن كل ـ إنتاجه القصصى .

وقد وجدت أن الفائدة المرجوة من وراء هذا العمل لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا فى وجود دراسة نقدية تتناول "الفن القصصى عند إبراهيم ناجى" ، وتتضح من خلالها الخصائص الفنية لقصصه ، والسمات المميزة لها ، وإسهاماته وتأثيره فى القاصين اللاحقين له ، فألحقت بخاتمة الكتاب دراسة نقدية تعالج كل ذلك ، وفضلت أن أجعلها فى خاتمة الكتاب لا فى أوله ، حتى لا يدخل القارئ على قصص ناجى من خلال آراء مسبقة ، وإنما يستخلص بنفسه هذه الآراء ، حتى إذا وصل إلى الدراسة يكون قد تشبع برؤيته الشخصية ، وتكونت لديه آراء من واقع قراءته هو ، لا من آراء الغير .   

 

ويبقى فى النهاية أن أسند الفضل إلى أصحابه ، فأتقدم بالشكر إلى الأستاذ رجب الصعيدى مدير عام خدمات القراء بدار الكتب المصرية الذى قدم لى كل التيسيرات الممكنة فى وقتٍ كانت دار الكتب فيه فى طور التجديدات ، وكان صعيباً استخراج ما تم استخراجه فى ظل هذه الظروف ، فله منى كل الشكر والتقدير . كذلك أقدم شكرى للناقد والباحث والأديب الأستاذ مصطفى بيومى بجامعة المنيا الذى شاركنى ـ ومايزال ـ هم إنصاف ناجى .

فإن أكن قد أصبت فلله الفضل من قبل ومن بعد ،

وعليه قصد السبيل ، والله المستعان .

منير فوزى

المنيا فى 31 ديسمبر 1998م

 

 

 

 

 
مدينة الأحلام

   

        فى صباح يوم من أيام الشتاء كانت حارة علام بقرب شارع محمد على قذرة متراكمة الأوحال وكان البقال عبد الدايم يفتح حانوته وبائعة اللبن تقرع باب المنزل المجاور . ومرت بضع عربات كارو . وأخذ صاحب القهوة البلدى المواجهة للمنزل يصف كراسيه ويسعل سعالاً جافاً وتبادل البقال عبد الدايم والمعلم سلام صاحب القهوة التحيات المعتادة وظلت بائعة اللبن تقرع الباب على غير فائدة . وصاح بها البقال : " الجماعة عزلوا " فتحركت الورقة " للإيجار " المعلقة بالشرفة كأنما تثبت وجودها وتؤكد كلام عبد الدايم . ثم زادت الحركة فى الحارة ونزل الصبية يجعلون من الوحل ميداناً ، ومن البرك ملاعب يسبحون فيها وجاء الباعة ينادون على بضاعتهم ووجلس بعض النسوة على جانبى الطريق يبعن طعامهن القذر ويجمعن الذباب وينشرن الأوبئة وأخيراً تمت صورة كاملة من صور تلك الحوارى البائسة المنسية ، وكانت الشمس لم تبدد تماماً الضباب المخيم على ذلك الحى فكان الجو صافياً من ناحية وغائماً من ناحية أخرى ومهدداً بمطر جديد تعلو به الأوحال وتتسع البرك .

 

        وماذا يهـم ذلك ، أوحال أو برك أوغيم أو صفاء أوضنك مخيم أو عدل شامل . إذا طلع الصباح فتح عبد الدايم حانوته والمعلم سلام قهوته وجلست أم آمنة بائعة البرتقال بمشنتها فإذا انصرم النهار آبوا جميعا الىمساكنهم المريعة ، ليعودوا فى اليوم التالى وتجرى الحياة مجراها فى الرزق الضيق والبلاء الواسع !

        كان المعلم سلام يصيح بصبيه غاضباً ويلعن اليوم الذى جاء فيه إلى القهوة ، ثم يتبع ذلك بسعاله الجاف ، والبقال عبد الدايم يزن رطلاً من الصابون ويحلف أنه لا يوجد أدق من ميزانه ، ولا أحسن من ذمته وكان الذباب يحتفل على مشنة أم آمنة فإذا دفعته قائلة : " هش " جمع جموعه وعاد يغطى تماماً البرتقال الصغير الجاف المنقوط . كان هذا يحدث فى حارة علام حينما وقفت عربة كارو تحمل أمتعة وتقف أمام المنزل الخالى فترك البقال الميزان ، وترك المعلم سلام صبيه ، وترك الذباب مشنة أم آمنة ، وانضم إليهم بعض الصبية ، ومضوا فى موكب ليروا من الساكن الجديد ولينظروا نظرة تقديرية إلى الأمتعة ، من صحاحير وحلل وكنبات وكراسى ودواليب وفى الحق لم تكن تلك الأمتعة دالة على الفاقة ، بل دالة بشكلها وصبغتها الحائلة على  عز قديم وفقر جديد .

 

        وكان يرافق العربة شاب على دراجة وكنت ترى على بذلته وحذائه طابع الفقر ولكنك كنت تلمح فى الياقـة النظيفة والقميص الأبيض ، وفى وضع الطربوش ورباط الرقبة ، رمز الأصل القديم ، وتؤمن بذلك وهو ينزل عن دراجته ويمضى إلى الباب ليفتحه . لقـد كان يمشى مشية الأمير المخلوع وينظر إلى الحى الفقير نظرة طويلة مستسلمة .

        وكان اسمه - أمين سليم - وكان المنزل مكوناً من طابقين كلاهما خالٍ . ولكنه اختار أعلاهما .

        نادى على الحوذى أن يحمل الأمتعة ويضعها فى ردهة الطابق الأرضى . فاستعان الرجل بزميله وأخذوا يراكمونها فلما انتهوا من عملهم أخذ أمين يبحث فى جيوبه عن الأجرة والرجل ينظر إليه نظرة النسر يريد أن ينقض ويعد نفسه للعراك ويتهيأ له.

        لقد كان الرجل متفقا على أجر معلوم ومع ذلك فهو من تلك الفئة المجرمة التى تضطرها الفاقة ألا تحافظ على قول ولا تبقى على ميثاق . ومع ذلك فهى فئة تأسرها الضحكة الطيبة والكلمة الرقيقة وفيها كثير من الخلال الكريمة والنخوة والأريحية وكان أمين ذكياً يفهم ذلك أتم الفهم فبسط إليه ، ضاحكاً ضحكته الوديعة ـ كل الفكة التى فى جيبه قائلا اللى انت عاوزه خده فخجل الرجل النسر وتدلى منقاره فى ذلة ، وتوارت شراسته . واكتفى بأجر يزيد زيادة معقولة أخذه وانصرف .

        وبعد قليل جاءت عربة تحمل سيداً وسيدة  وخادماً وكان السيد شيخاً قارب السبعين يحمل وقار مجد سالف فوق وقار السنين وفوق وقار الصـبر الذى ارتسم فى تجاعيد وجهه وكانت السيدة أقل منه سناً لا تزال تحتفظ بالبرقع الأبيض  وبسمحة من جمال ذاهب وبقية من كبرياء أناخت عليها السنون .

        أسرع الخادم فقرع الباب . ففتح لهم ووقف أمين على عتبته مرحباً ، وساعد الوالد والوالده على النزول من العربة فلما دخلوا المنزل وصعدوا الدرج الخشبى أوشكت الشفاه أن تحتج ووقفت الدموع المكظومة على طرف المحاجر ذاهلة : ثلاث غرف صغيرة وأخرى فى السـطح ، ونوافذ بالية قديمة تطل على منازل مجاورة منغمسة فى الذل والظلمة ، تموج سطوحها بالنسوة هذه تنشر غسيلها ، وتلك تخاصم جارتها وتنشر لها ماضيها القذر !

        ولكن القلوب النبيلة شبيهة بأشعة الشمس فهى تنزل بالروضة الجميلة ، كما تحل بالأرض الموحلة لا تتغير ولا تكون غير أشعة الشمس ، فإن الغيوم مرت على تلك القلوب الكريمة لم تلبث حتى تبددت وعادت الأشعة إلى الاشراق وأخذ الجميع يتعاونون عل تنظيف المنزل  وترتيب الأثاث واختص أمين نفسـه بغرفة السطح فنقل إليها كتبه وسريره وأدواته القليلة .

***

 

        وبعد أسبوع جاء مستأجرون للطابق الأرضى ووقفت عربة كارو تحمل أمتعتهم وتلتها عربة تحمل أفراد العائلة وهم سيدة كهلة وفتاة رائعة الحسن وخادمة .

        وكانت الساعة الخامسة مساء حين عاد أمين متعبا يحمل كتبه ويحمل فوق منكبيه عبء رجولة مبكرة ، ولم يكن قد علم بعد بالجيران الجدد ، فلم يكد يصعد الدرج حتى خرجت الفتاة لترى القادم فصاحا فى وقت واحد :

        - سنية

        - أمين

        ولولا أن أطلت رؤوس الوالدين ناظرة بعيون مذهولة إلى هذا التعارف الفجائى ، لرأينا عناق الشوق المكظوم واللهفة المستترة أعواماً لا تعد !     

        منـذ عشرين سنة كانت شبرا الخيمة كالزمردة الصافية تزهو باليانع الأخضر . والبسـاط الرائع الذى هو سحر مصر ، وفتنتها العتيدة التى جرت إليها الغزاة أجناسا ونحلاً ، نعم شبرا الجميلة . التى اكتظت اليوم بالمساكن المتلاصقة وأفسدتها المدنية الجديدة ، ونزح إليها خلق كثيرون اشتروا تلك المروج البديعة وابتنوا بها مساكنهم الصغيرة المتقاربة ، كانت بساطاً واحداً ، قامت فى وسطه هنا وهناك منازل كحمامات بيضاء بسطت أجنحتها ، وهمت أن تطير إلى ساقية أو قناة أو غدير ، وكنا نعود من مدارسنا فى غروب الشمس ، فنترك كراساتنا وكتبنا فى بيوتنا ثم نسرع إلى تلك المهاد حيث ربا صبانا ونما مع الغصون النامية وحيث تنسمنا الريح الرقيقة ، فجرى الشعر فى دمنا ، والحب فى أرواحنا ، والصفاء فى طبائعنا ، أيام كنا نثب فراشات مع الفراشات الهاربة وأشعة مع الأشعات الغاربة ، وما نزال كذلك حتى تخور قوانا فنرجع لنذاكر أو ندعى أننـا نذاكر ، فإذا كانت ليالى القمر نطلع على الحقول الساكنة والسواقى الحالمة . جلسنا عند شجرة ، فإذا الشجرة تصغى والليل الجميل يرهف أذنه إلى حديث أطفال تتبدد موجاته فى بحر ذلك السحر الرهيب سحر القمر والطفولة والمروج .

***

        ففى ليلة من ليالى رمضان التقى الصبى أمين سليم برفقائه تحت شجرة الجميز الكبيرة القريبة من الساقية ، وجلسوا يتنادرون وحديث الصبية لا يعدو المدرسة والمدرسين والامتحان ، فإذا خرج عن هاته الدائرة يعرض للمبالغات ، والادعاء والفخر والتشبه بالرجال ، وأحياناً يكون سكون الليل وجمال القمر مغرياً على اعترافات يتبادلونها همسا شأن الكبار ففى الليلة التى نحن بصددها كان أكبرهم سناً يسخر من أمين ويقول : بالكم أمين ده اللى انتو شايفينه ساكت ده كل يوم وهو راجع من المدرسة يشتغل خدام لسنية بنت شكرى بك ويشيل لها الكتب بتاعتها !

        فضحكوا كلهم وصاحوا : صحيح ؟ فخجل ولم يجب وكان صمته اعترافاً . على أن الصبى كان فى هذا العمر الناضر جاداً غير عابث وقد حزن لذيوع سره ، وجعله موضع دعابة ، ولبث واجماً حتى انصرفوا كل إلى منزله .

        قبل هذه الليلة بشهرين ، وقفت الصبية الجميلة سنية أمام باب المدرسة تنتظر الخادم . وكان يبدو فى وجهها الناحل سحر وخيال وإبهام كل ذلك فى سمرة كسمرة الفجر وحمرة على الخدين كحمرة الشفق . حمرة تزداد وضوحاً كلما لحظتها أعين الصبية الواقفين عن عمد أو غير عمد ، ويزيدها حلاوة وغرابة . مريلة المدرسة الزرقاء والقبعة النظيفة السليمة الذوق تنساب من خلفها ضفيرتان من الشعر الأسود الحالك وفى نفس الوقت خرج أمين سليم من مدرسة فى نفس الشارع ووقف أمام باب المدرسة ينتظر الخادم .

        طال انتظارها لخادمها . وطال انتظاره لخادمه ، فلم يأت هذا ولا ذاك ، فضجرت وضجر ، واعتزمت أن تعود وحدها على غير عادة ، واعتزم كذلك ، ومشت الفتاة لا تلتفت يمنة ولا يسرة ، وتعمل بنصيحة أمهـا ، (ماتكلميش حد) وترك الفتى باب مدرسته مهرولاً ، وكان يرتـدى بذلة جميلة غالية الثمن ، ولكنه كان يبدو عليه الإهمال فى ملبسه ، ويبدو على وجهه النحيل أثر التفكير .

        وكان الطريق إلى المـنزل يعترضه " مزلقان " وطالما راح القطار وجاء فى "مناورة" ثقيلة ، وربما كنت ذاهباً إلى موعد أو مدرسة ، فوجدت سلم المزلقان ينزل فى سرعة ، ويحول دون مرورك ، ويبدأ القطار الثقيل فى الغدو والرواح .

        ففى هذا اليوم كان الشارع مزدحماً بالباعة والعربات الكبيرة التى تحمل الحجارة . والمزلقان قد نزل سلمه ، والقطار العجيب يروح ويغدو .

        وفى الساعة التى اختارها القدر ، وقفت سنية أمام المزلقان ووقف أمين ، وجاء غلام يدفع عربة يـد ، فمست يده سنية فسقطت كتبها فتناولها أمين الخبيث ولم يعطها إياها ، بل وضعها ساكنا فى محفظته .

        علت خدها حمرة الشفق ، وطغت على الحدود المألوفة . وأطرقت لا تدرى ماذا تصنع ، بعد ذلك رفع المزلقان سلمه وأخذ الناس يتدافعون ، ويتزاحمون بالمناكب فتقدم الصبى والصبية ثم جمعهما القدر فى سبيل واحد وسارا صامتين زمناً لاحساب له ، حتى وقفت فجأة فأدرك أنه قد آن أن يفترقا ، فأخرج لها كتبها ، ثم عز عليه أن تمضى بدون أن يتعارفا فسأل :

        - اسمك إيه

        - سنية شكرى

        - وأنا أمين سليم

-     فى سنه أيه ؟

        - سنه رابعة

        - وأنا كمان

        - ساكنة فين ؟

        - فى شارع شبرا ..

- قريب منا يا ريتك تيجى مرة فى القمر نقعد تحت شجرة الجميز قرب

  الساقية

ولاح خيال الخادمة من ناحية وخادمها من الناحية المقابلة ، فابتعد وابتعدت وصار يراها كل يوم فيتبادلان التحية بالنظر ويتمنيان لو أن الخادمين مرضا أو غابا أو أصابهما حادث .

        ثم انقطعت عن المجئ ، وصار الطريق مقفراً لا يطاق ، ومضى فى ضوء القمر إلى الشجرة التى تمنى أن يراها عندها ، مضى مراراً ، والحنين إليها يتسع فى قلبه حتى صار ناراً آكلة .

        ذات ليلة ذهب فى سرب من رفقائه إلى حيث يتلاقون ، فمر بسرب من الفتيات يتحادثن عند باب منزل فطرق أذنه صوت يعرفه ، فتخلف عن أصحابه ، ووقف فى ناحية يسترق السمع فسمع سنية (وكانت هى) تقول همساً لصاحبة لها :

        نعم التقط كتبى ووضعها فى محفظته وتمنى أن يلاقينى فى ضوء القمر تحت شجرة الجميز عند الساقية . إنه غير جميل ولكنه رقيق ومن عائلة كبيرة على أنه قد نسينى بالطبع .

        فخفق قلبه ، وانكمش فى الظلمة الكثيفة وأجابت دمعة حارة أن هذا غير صحيح .

        ثم سمع خطاها تبتعد ، وهو فى الظلمة جامد فى مكانه ، ثم ابتعدت خطاها عنه فى الحياة .

        وأقبل الفقر يطحنهما متفرقين ، حتى التقيا فى المنزل الحقير بحارة علام .

        كان الليل هادئاً والقمـر فى السحب الصافية يلوح جليلاً فى حيرته ، يبدو من خلال سحابة ويستتر وراء أخرى ، وكأنه ينظر إلى الدنيـا بعين ملولة ، ويرى أن أهلها لا يستحقون ما يقدمه إليهم من النور القدسى الجميل ، إذ بينما يشع عليهم من وجدانه وقلبه يغط بعضهم فى النوم ، وبعضهم لا يفهمون أنه يعلمهم السمو والنبل ، فيمضون إلى إتيان لذة محرمة أو منكر لا يليق ، نعم كان القمر فى تلك الليلة يعتزم أن لا يطلع على الدنيـا واستتر وطال استتاره لولا أن اليد الخفية الجبارة دفعته من وراء السحاب فطلع كارها ، وغمر نوره القاهرة وفاض على أعالى القصور كما فاض على السطوح الفقيرة فى حارة علام .

        فى تلك اللحظة فتح أمين سليم النافذة وتنفـس طويلاً ، ونظر إلى القمر نظرة مبهمة ثم عاد إلى النافذة ، فأغلقها فى ضجر وملال .

        واسـتوى أمام مائدته ، وجعل مصباحه قريباً من يساره ، وفتح كتاباً ثم أغلقه ، وأجال بصره فى الغرفة الفقيرة الأثاث . فهذا سريره الذى ينام عليه منذ عشر سنوات . تفككت أعمدته ، وطالما أصلحها فعادت كا هى ، فمل إصلاحها ، ورضى بصريرها المزعج كلما حدثتـه نفسه أن يرتاح على فراشه ، وهذا هو الكرسى الطويل بجانب السرير ، وطالما اكتفى بالنوم عليه وتلك هى السجادة الوحيدة الباقية من فرش القصر الكبير ، وهذا هو رف الكتب ، قطعة عادية من الخشب مفروشة بالورق الملون المقصوص ، وذلك هو مصباحه الباهت النور ، مصباحه الثقيل الذى ينخفض نوره من نفسه ويحتاج إلى يد تعليه كل آونة ، فإذا علا اندفع لسان من اللهب يهدد الزجاجة بالكسر والسقف "بالهباب" .

        فى تلك الليلة كان أمين يرتدى جلباباً خفيفاً أبيض . وكان وجهه شاحبا قلقاً ، وكان يفتح كتاباً ثم يغلقه ، ويضـع نظارته على عينيه ثم يخلعها ، ويجلس على كرسيه قبل المائدة ، ثم يتركه ليجلس على حافة السرير ، ثم يترك حافة السرير ليجلس على الكرسى الطويل .

        فبينما هو فى ذلك القلق الغريب ، دق الباب دقاً خفيفاً ، فوثب مرتجفاً وأسرع إليه وما لبث أن صاح هامساً :

        - سنية ؟

        - ( بهمس وخوف ) أيوه ...

        وأقفل الباب عليهما فى حرص وسرعة .

        وكان المصباح الملعون قد عاد نوره إلى الانخفاض وأصبحت الغرفة فى شئ من الظلمة ، وترامت ظلال كثيرة على الحائط جعلت الغرفة كالمعبد المرهوب ، وفى وسـطه عابدان لا يتكلمان ، وإنما تقول الظلمة ، وشعاع القمر الداخل من النافذة كاللص ، إنهمـا لبثا متعانقين كالموجتين ، وجلباباهما فى البياض كرغوة الزبد . وتخلصت سنية بلطف ، ووقفت بعيداً ، وكان قوامها ممشوقاً وشعرها المتهدل الجميل قد قارب وجهها فأزاحته بيدها البضة الناعمة ، ومضت إلى الكرسى الطويل متهالكة ، وجلس أمين على السجادة مسنداً رأسه على ركبتيها وصارا يتكلمان همساً :

- كم سنة يا سنية ، والله ما نسيتك لحظة . شوفى افتقرنا وجينا فى حارة فى شارع محمد على .

        فأرسلت سنية دمعة حارة ولم تجب ، فاستمر قائلا : ودخلت التعليم العالى مجانا بواسطة ، وعلىَّ أن اشتغل وأن أنجح بسرعة ، وإلا ماذا يصنع أبى المسكين . فلم تجب سنية . وأمسكت برأسه ، وجعلت وجهه إليها تطيل التحديق فيه ، ثم قالت حزينة :

-  حالكم أحسن من حالنا بكتير ، أبى مات ، ولم يترك لنا شيئاً تقريباً ، وصارت الحال تمشى من سيئ إلى أسوأ حتى جئنا أيضاً إلى الحارة نفسها فى شارع محمد على !

        فذرف بدوره دمعة واستمر الصمت وأخذت الذبالة فى المصباح الملعون تنذر بظلمة كاملة ، وإذا بمواء قطتين ذكر وأنثى بالطبــع ، يتحابان فى ضوء القمر ؛ ويسران الطبيعة بتحقيق أحلامها .

        فضحكت سنية وأمين معا وهمست ، دى قطتنا وقطكم ، ثم زمت شفتيها فى خفة معبودة وقالت : ألا تذكر يا أمين أحلامك فى شبرا ، وأمانيك أن نتحاب فى ضوء القمر ، لقد أنعمت الدنيا بأمانيك على قطتينا ، أجاب : معلهش يا سنية آدى احنا اتقابلنا ، ومادمت أراك فسأشتغل وأنجح ، ولا يلبث هذا الضنك أن يزول ؛ فصاحت فجأة كأنما رأت الضنك قد زال حقيقة

- وبعد أن يزول الضنك ؟

        - نتزوج

        - وبعد ذلك ؟

        - يكون لنا أولاد

-     وبعد ذلك ؟

        - نكون قد اقتصدنا مالا كافيا فنبنى منزلاً خاصاً

        - وأمى ، وأبوك وأمك ؟

        - يكونون قد تقدموا فى العمر ، فنسعد بمشيبهم ونجعله كله رخاء

-     وحبنا ؟

- يزيـد على السنين ، وينميه من ناحيتينا إخلاصى وإخلاصك وتسامحك وتسامحى .

        ثم همت أن تلقى سؤالاً جديداً ، ولكن غمامة عبرت فكرها فجأة ، ولاحت لها صورة لا تحبها ، فأدرك ذلك أمين فسألها فامتنعت عن الاجابة ، فألح ، فقالت

        "وإذا تعرض لنا زكى ابن خالتى" !

 

        فانتفض أمين وتغيرت ملامحه ، وتركت رأسه ركبتيها ودار بعينيه فى الظلمة يبحث عن زكى ابن خالة سنية ، زكى الثقيل بجسمه الضخم ، وسوالفه الكريهة ، وعينه الزجاجية وغناه الفاحش ، واللبانة التى يمضغها - دائماً ... دائماً .

        تغير الفتى الوديع عند مرور تلك الصورة البشعة وقال أقتله والويل لك إذا فكرت فى أن تميلى إليه .

        قالت : أنت تهيننى وإذا ذكرت هذا ثانياً فلن أعود أبداً

        فاستعطفها وعاد ليسند رأسه على ركبتيها

        وطردا تلك الصورة الكريهة وعادا ليكملان مدينة الأحلام ، وأوشك الفجر أن يطلع على تلك المدينة التى جلسا يبنيانها معا ، فوقف أمين فجأة ، قائلا :

        - سنية

        - نعم

-     شايفه الفجر اللى قرب يطلع ؟

        - أيوه شايفاه

        - أحلفى انك لى وحدى ؟

        - احلف

        - هاتى فمك

        فمدت إليه شفة سحرية رطبة كالشليك الندى ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر !

        وكان ذلك اللقاء يتكرر ومدينة الأحلام تبنى مع الليل وتتبخر مع الفجر ، وأمين يدأب ، ويرى أمانيه ترنو ، حتى كان ذات صباح خارجاً بكتبه إلى مدرسته فرأى زكى ابن خالة سنية جالسا إلى مائدة فى قهوة المعلم سلام فعجب من تلك الجلسة المبكرة وكان شجاعاً يفضل مواجهة الأمور فمضى إلى غريمه تواً :

        - صباح الخير يا سى زكى ايه اللى جابك الصبح بدرى كده

 

         فاعتدل سى زكى فى كرسيه بكبرياء وقحة وأدار اللبانة فى فمه القبيح وقال بلهجة ساخرة :

        - علشان أزور قرايبنا جيرانكم . وصفق على الصبى ثم مد يده إلى جيبه يرن النقود ويؤكد لأمين من جديد أنه غنى وأنه بهذا الغنى سيملك ابنه جيرانه .

        قال أمين :

        - ولكن الزيارة تبقى بدرى كده

        - ده مش شغلك

        فثار الدم فى وجه أمين ، ولم يدر بالضبط ماذا حدث غير أنه وجد القهوة ممتلئة بالناس ووجد سى زكى فى وسطها والدم يسيل من أنفه وهو يسب ويلعن ورأسه عار وسوالفه القبيحة ملوثة بالدم .

        والحقيقة أن أمين بدون أن يدرى ما هو صانع تناول كرسياً فهرب سى زكى إلى داخل القهوة فطار الكرسى وراءه وتبعه آخر بنفس السرعة فأصـابه فى أنفه فلما رأى الدم هاجه ذلك كثيراً ووثب بجسمه الضخم على غريمه ولكن المعلم سلام كان قد جاء وجاء ناس آخرون فحالوا بينهما وتهدد زكى وتوعد وقال بكره تشوف .

وجمع أمين كتبه فى كبرياء وأنفة ، وانصرف بدون أن يرد .

وقالت سنية لأمين فى غرفته بعد أيام :

-  أما علقة اللى كلها زكى . تعرف أنه دخل عندنا بعدها ، وأمى أكرمته وطيبت خاطره ومسحت له جرحه ووضعت له صبغة يود . أمى المسكينة تراه غنياً وتلاطفه لعله يتزوجنى ، وهو يدخل بيتنا ويتودد إلينا لهذ الغرض . أمس جاء عندنا وقال لأمى إن الحكيم قال له أن عظمة أنفه من فوق انكسرت وستترك عاهة مستديمة ، لأن أنفه ينخسف من أعلى . وسيرفع عليك قضية .

        فضحــك أمين وقال : لتزيد شكله قبحاً ، أما القضية فليرفعها على فى أوربا .. !

        فسألت مندهشة : أوربا ؟ كيف ؟

 

        قال : أنا نجحت فى الامتحان الأخير كما تعلمين ، وسأسافر فى بعثة إن شاء الله بعد أسبوع .

        فضربت صدرها بيدها ، قائلة أتتركنا ؟ قال نعم لكى اختبر القسم الذى أقسمته والفجر موشـك الطلوع ، قالت وهى تجهش بالبكاء ، كن مطمئناً . واعتنقا ، وطال عناقهما ، ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر .

***

 

        من أمين إلى سنية

لندن فى 7 أبريل سنة 1928

 

حبيبتى سنية

        جلست وحدى فى غرفتى قرب المدفأة أقرأ خطاباتك الجميلة ، خطاباتك التى ملأت حياتى أملاً ، وأنستنى غربتى وجعلت منى رجلاً ، لقد كان خيالك الجميل ، وإقسامنا كل ما أوشك الفجر أن يطلع ومدينة الأحلام التى شيدناها معا ، كل تلك الصـور كانت لا تبارح ناظرى نعم مرت سنون جهاد عنيف ، ولكنى لم أكن أعبأ بها ، ولا أبالى بمتاعبها ، مادمت فى انتظارى .

آه يا سـنية إن لندن بحالها ، لندن العظيمة الضخمة ، لاتساوى ركناً من مدينة الأحلام ! وعلى ذكر هاته المدينة المسحورة إنى أراك الآن فى ركن منها يغمره القمر ، وتنام فيه الزهور آمنة ، نعم أراك إلى جانبى وأمضى فى تقبيلك بلا حساب ... !

حبيبك

أمين

***

من سنية إلى أمين

القاهرة فى 25 مايو سنة 1928

 

        حبيبى أمين

        استلمت خطابك وسرنى أن أسمع أنك فى صحة جيدة ، أما نحن فقد ضاقت بنا الحال ، شكراً للنقود التى ترسلها إلينا مما تقتصده ، وإننا نعلم ما يكلفك هذا من التقتير على نفسك وأنت فى بلاد غريبة ، نعم ضاقت بنا الحال يا أمين وتركنا جيرتكم الهنيئة ، ورحلنا إلى منزل أقل إيجاراً ، وقبل أن ننتقل إليه ، صعدت فى الليل إلى معبدنا المقدس ، ووقفت عنــد باب غرفتك ، أستعيد الماضى الجميل ، ومدينة الأحلام ، متى تعود لنتم بناءها !! متى؟

حبيبتك سنية

        ملحوظة : اكتب إلى على شباك بوستة الفجالة .. !

***

من أمين إلى سنية

لندن فى 15 سبتمبر سنة 1928

        حبيبتى سنية

        أكتب إليك والفرح يملك على مشـاعرى ، وإنى لواثق أن الخبر الذى سأقصه عليك سيجعلك ترقصين من السرور ، لقد نجحت ، وأقبل على عميد الكلية يهنئنى فقد جاء اسمى فى قائمة الشرف .      

        أنا عائد يا سنية ، عائد بعد مضى أربع سنوات لا أعلم كيف صبرت على قضائها بعيداً عنكم ؛ أطوى البحر والبر بالفكر إليك وأقبلك طويلا .

حبيبك

أمين

 

***

 

من سنية إلى أمين

2 أكتوبر سنة 1928

 

        حبيبى أمين

        استلمت خطابك الأخير من بوستة الفجالة ، وقرأته كثيرا وقبلته مراراً ، دامعة العين شديدة الشوق إليك ، والدنيا فراغ شنيع بغيرك والأيام لا معنى لها ، عدت للتى تحبك وتنتظرك .

سنية

        (ملحوظة) اعذر اختصارى هذه المرة فإنى لشدة الفرح بك لا أدرى ماذا أكتب ‍‍!

***

        فى يوم ممطر كانت باخرة تقترب إلى الشاطئ فى ميناء الأسكندرية ووقف المنتظرون يترقبون العائدين ، ويلوحون بمناديلهم ، واقتربت الباخرة ببطء ، ثم وضع السلم وصعد ضابط الميناء ورجاله ثم سمح للركاب بالنزول ، فأسرع من بينهم شاب نعرفه ، يلبس قبعة ويحمل نظارة نزل السلم بسرعة ، وتلفت هنا وهناك فناداه الشخص الوحيد الذى ينتظره

        - أمين !

        - أبى !

        وكان عناق رائع حار ودموع ، وبعد أن تم تفتيش الحقائب ، أقلتهما عربة إلى القطار المسافر إلى القاهرة ، وفى القطار علم أمين أن أمه مريضة بالروماتيزم :

-  مش قادرة يا ابنى وأنا كمان ، الربو تاعبنى قوى ومنذ أسبوعين كان عندى ورم فى الرجلين والحكيم أمرنى بالراحة ومنعنى عن اللحوم والملح وكان جيراننا عائلة شكرى بك يواسوننا ولكن الحالة ضاقت بهم فعزلوا إلى منزل أرخص .

        فخفق قلب أمين وأحس شيئا ثقيلاً ينحدر إلى صدره .

-  وزارونا مرتين بعدها ، والشقة والله فاضية لغاية دلوقتى . وانتقل الحديث إلى أشياء أخرى ، وبلغا القاهرة ، ثم المنزل ووجد أمين الدور الأرضى خالياً ، فأحس بفراغ كفراغ المقابر ، وكانت والدتــه فى فراشها ، وقد أقعدها المرض ، وشـحب لونها ، ولكن الأمـل فى لقاء ابنها ، جعل لعينها بريقاً غريباً من الحياة ، وكأن قوة غير عادية ، دبت فيها وهى تنتظره ، ثم وهى تضمه ، ثم وهى تبكي!

        وأما غرفته فى السـطح فلم يجدَّ عليها شئ ، ولكن حين فتحها هب منها عبق الذكرى ، والقسم الذاهب ، والمدينة السحرية

        فى صباح اليوم التالى أخذ يبحث ويسأل عن منزل شكرى بك الجديد ، فلم يهتد وذهب إلى بوستة الفجالة ، وكان قد أرسل إليها خطابا كعادته قديما . فلم يأت أحد لاستلامه ، ولم يعلم من أمرهم غير أن الفاقة ألحت عليهم ، وهنا انقطع خيط البحث .

        وذات صباح كان بمديرية الجيزة لأمر يخصه ، فمر بحديقة الحيوانات وخطر له أن يدخل .

        جلس على مقد تجاه القرود ، خلف شجرة متوارية بعض الشئ . فمرت سيدة بادنة "بملاية لف" ومعها طفلان وخلفهم رجل ، وكان الرجل ضخما طويلا ، وله سوالف كريهة وفى فمه لبانة .

        فذعر وأحس بيد تقبض على حلقه وتنشب أظافرها فيه ، وهم أن يصيح ! فلم يستطع وأراد أن يقوم فلم يقدر ، سنية الجميلة الرشيقة تلبس " ملاية لف " وتصبح بادنة ، ويصير وجهها عادياً خشناً ، وتتزوج بمن ، بالشخص البغيض الكريه ، الذى خسف أنفه بالكرسى من أجلها .

        هم أن يقوم ثانياً ، وأن يحتج ، فوقف بينه وبينهم شبح ، وصرخ فى وجهه . قف فأنا الذى أذللت هذه المرأة . ومازلت أطحنها . وأمشى بها من حاجة إلى حاجة حتى تزوجت غريمك ... والخطابات إنها خدعتك لصالحك .. ألا تعرفنى فصاح أمين . أجل أعرفك أيها الفقر . وهذه آثار أظافرك فى عنقى .

        وطأطأ رأسه وقد غفر للحبيبة المسكينة بينما الموكب العائلى يسير ثم ثارت عاصفة من الغبار حجبت عن عينه إلى الأبد مدينة الأحلام .

 

 

 

حبيبان

*  ُنشرت فى العدد الرابع من مجلة (حكيم البيت) بتاريخ (1/4/1934) .

 

كنا نتلاقى فى شرفة لوكاندة الأقصر كل مساء : أصحابى الثلاثة وأنا . جمعتنا الغربة وألف بيننا الشباب والفراغ والكسل . وكان أكثر حديثنا - كالشباب - عن المرأة . كان كل من الأصدقاء الثلاثة يبوح بتجاربه همساً . أما أكبرنا سناً فمدرس وله شهرة خاصة عن النساء وبسبب فضيحة سابقة نفته وزارة المعارف إلى الأقصر .

 

        وأما الثانى فطبيب بيطرى مغرم بأن يقص تجاريبــه عن الحب فى الحيوان . وأما الثالث فهو بطل قصتنا هذه . موظف بالزراعـة . على بساطة مركزه يلبس أغلى الثياب ويحمل عصا مذهبة نقش عليه اسـمه . ويضع وردة حمراء فى عروة سترته هذا إلى جمال وصباحة عجيبين إلى قوام كامل إغريقى ! وقد كنت أصغرهم سناً . وأقلهم تجربة فكنت أصغى دائماً وأبدى ملاحظاتى معتمداً على ما قرأته فى علم النفس . وفى قصص موباسان وبورجيه ومارسيل بريفو .

 

        ذات مساء كانت الشمس تغرب على أطلال الأقصر الرائعة وتمسح بأشعتها الحزينة رمال وادى الملوك كفم باهت يقبل خدا شاحباً عليه جلال الذبول . وكانت الظلمة تتجمع فى شرفة الفندق . وكان مكين أفندى يحدثنا عن غزواته الممتازة . وحين قارب أن يقص علينا كيف سلمت المدينة رفع قامتـه الجميلة فى زهو وانتصار ثم انحنى ناظراً إلى وردته الكبيرة التى لا تفارق عروته وشمها كأنما يسـتروح من عبيرها نسيماً قديماً من الذكريات : ثم مرت سائحة جميلة تتهادى فالتفت إلينا قائلاً إنى أحب فى المرأة كبرياءها . قلت وأنا أحب ذكاءها . ثم مرحها . وضع ما تشاء بعد ذلك . أجاب ساخراً إن الآراء تختلف وأنت تعتمد على ما تقرأ ، وما تسمع من الغير ! قلت "ما علينا" استمر فى قصتك أيها المجرب فاستعاد حديثه قائلا فى فلسفة واتئاد : إن الوصول إلى قلب المرأة يستلزم بعض القواعد ، على أنه يجب أن تعرفوا أن ما يسمى بجاذبية الجنس موهبة من الله . وهى قد توجد فى شخص ما وهو لا يعرف كيف يستغلها ! ثم أعاد النظر إلى وردته الكبيرة ، واتكأ على عصاته المذهبة وأخذ يتمهل ويسـتجمع أفكاره ويستعد للكلام كأستاذ يشرح درسا . على أنه لم يكد يبدأ من جديد حتى جاء الجرسون يخبرنا بأن التليفون يريد الدكتور فقمت لأجيب عليه . وعدت لأخبرهم أن عائلة الخواجا قلدس الغنى المعروف بالأقصر يطلبوننى ، واسـتأذنت منهم ملتفتاً إلى مكين أفندى قائلا فى دعابة : غـدا نكمل محاضرتك الشيقة .

 

        فى اليوم التالى انتظرنا مكين أفندى فلم يحضر فأرسلنا من يسأل عنه فلم يجده فحين هممنا بالقيام إذا به يقبل علينا شاحب الوجه ، ولأول مرة من يوم معرفتى به لم أجد الوردة الكبيرة فى مكانها . وكان ذابل العينين يبدو عليه انكسار . شبه قائد فقد النصر فى معركـة ، وكان وجهه فى العادة مشرقاً . وعيناه واسعتين تلمعان ببريق ونشاط غير عاديين . وكان حاضر البديهة ذا ذكاء يغلى كالمرجل . وكان كثير الإدلال بشعره الفاحم اللامع الذى يمشطه إلى الوراء ، ويتعمد أن يلقى بطربوشه إلى الخلف ليرينا إياه . ولكنه فى الليلة التى ذكرتها كان كالمشرف على هاوية بعيدة الغور . فقد هرول مسرعاً وقال "عن إذنكم عاوز الدكتور فى كلمة" . أخذنى إلى جانب وقال "عايزك تكشف علىَّ حالا . لأنى بصقت دم أحمر اليوم" . وأرانى إياه فى منديله خفية . فمرت فى ذاكرتى كاللمــح صورة خاطفة لذلك الشاب ، صحته التى كان يعتز بها ويقول "الحمد لله اللى عمرى ما احتجتش لحكيم" ، وحوادثه الغرامية المكللة بالنصر ، وجرأته وآماله وسعة حيلته ومشاريعه الكثيرة . ذلك "الرمز" الذى التقينا به فى الأقصر طالما ذكرنى بتوت عنخ ، جماله وعيناه ، فهل يكون مصيره مصير ذلك الملك ، مصير الذكاء حين يكون قرينا للجمال والسـحر والفتنة ؟ هل يكون الذى يشكو منه الآن هو "السل" السل الذى أودى بالنوابغ شيللى وكيتس وكاترين مانسفيلد ؟

        قلت كاتماً قلقى : لا تخف : يمكن يكون الدم من زورك !

        وأخذته لعيادتى وفحصت بصاقه .

        فرأيت مع الأسف تحت الميكروسكوب  "عصيات " كوخ اللعينة صفوفاً صفوفاً حمراء اللون كجنود عليها أردية من الدم .

        فتجلدت وقلت لا تخف إن هذا الشئ بسيط . فى أوله . رطوبة فى الرئة غير أنك محتاج للعلاج فى مصر . أجابنى بذكائه الخارق تريد أن تقول : حلوان . أجبت بصوت مبحوح " نعم " .

2

        بعد شهرين كنا جالسين فى لوكاندة الأقصر كعادتنا كل مساء فجرى ذكر مكين أفندى ، وكانوا إذا سألونى عنه قلت إنه مسافر من أجل حمى أصابته . فقال المدرس

- والله النهارده وصلنى جواب منه وهذا هو .

        أخرج الخطاب من جيبه وقرأ :

        " عزيزى سلمان

        أقبلك وباقى الأخوان وأرجو أن تكونوا جميعاً فى أتم صحة وعافية . انقطعت أخبارى عنكم لأنى كنت فى تعب مميت ولذلك لم أستطع الكتابة . أخبر الدكتور أن حالتى تحسنت . وأشكره على عنايته الفائقة بى . أظنكم مشتاقين لأن تعرفوا باقى المحاضرة التى بدأتها لكم عن قلب المرأة ولم أكملها . لا تخافوا فإنى عـائد إليكم قريباً إن شاء الله وسأكمل لكم البحث ثم أعقد لكم امتحاناً وأعطيكم درجات . غير أنى أؤكد من الآن أن الدكتور سيأخذ صفراً لأن كلامه كله خيالى غير معتمد على الواقع . هل تذكر " مارى " التى تعرفت إليها فى الأقصر واستعصت عليك وأذاقتك العذاب ألواناً !!إنها فى حلوان وعندما أعود سأحكى لك حكايتها لتعرف وتتعلم !

        ختاماً تقبلوا تحيات المخلص مكين "

***

 

        طوى سلمان أفندى الخطاب ووضعه فى جيبه قائلا مكين ده مدعى ، هوه فاهم إن الشكل الكل فى الكل ! ومد يده يتحسس أنفه الكبير المشوه ليؤكد لنا فضيلة الدمامة . ثم استطرد قائلا دة كان بيكح فى المدة الأخيرة وصحته ماكنتش عجبانى هو عنده إيه بالحق يا دكتور ؟

        قلت " حمى اعتيادية "

        أجاب فى لؤم ظاهر "أمال ليه راح حلوان !"

        فتعمدت ألا أجيب . وغيرت مجرى الحديث قائلاً فى سخرية " ومين يا سيدى مارى دى التى استعصت عليك وأذاقتك العذاب ألواناً ؟ "

        قال فى خبث " ده مكين واد مجنون . والله دى كانت تفضلنى عليه وتحلف بحياتى قدامه . مسكين ! كان دائماً يفتخر بقوته ونشاطه المتواصل . وآهى آخرته المرض اللى جاله " .

        قلت : "مظلوم ! ده النشاط الفائق نذير ! كان عارض من أعراض المرض . لو كان قالى عليه كنت حذرته . اللى كان بيعده دليل الصحة كان إشارة الخطر !" .

        فمسح سلمان العرق من فوق جبينه شأن القلق الخائف فبدا لى كأنه يشعر بهذا النشاط الفائق . وشمت فيه لخبثه .

3

        ذات مساء جلست فى حديقة ليمونيا بالقاهرة مع المستر هول وكيل شركة التأمين وكان يغرينى بفوائد التأمين عند شركته . ويستريح ليحشو بيبته . ثم يستجم ويندفع فى إغرائه مستغلا ضعفى خبيرا بأمرى.

        فلما صار بينه وبين الانتصار دقيقة . وبينى وبين قبول الصفقة مثل ذلك الزمن لمحت مكين أفندى مقبلاً من بعيد . فكأن القدر أرسله فى الوقت المناسـب . برافو أيها القدر !

        صاح وهو مقبل فى فـرح استلفت الأنظار " يا دكتور إزيك وحشتنا إلى آخر ذلك السطر الطويل العريض . دعوته للجلوس فجلس ثم عرفته بالمستر هول . على أن هذا إذ لم يجد مجالاً لبضاعتـه الليلة استأذن وانصرف . لاحظت أن مكين قد ازداد نحولاً . وازدادت عيناه اتساعاً وبريقاً . وعندما دفع طربوشه إلى الخلف وجدت شعره قد ازداد حلوكة والتماماً . أردت أن أسأله عن شأنه فسبقنى هو . وأخذ يتكلم فلاحظت فى صوته رنة موسيقية هادئة كترجيع ناى بعيد . وافتكرت انى قرأت لا أدرى أين هذا الصوت الأخاذ الموسيقى هو من أول صفات " الدون جوان " . أخبرنى أنه عولج بحقن الجير وأنه لا ينقطع عن أخذ زيت السمك . وأن الدم فى البصاق امتنع . وأنه حلل البلغم وعمل أشعة فوجد الحالة أحسن . هنأته ونصحته بأن يحافظ على تحسنه بالاعتدال فى حياته . ثم ذكرت فجأة المحاضرة التى لم تتم فى الأقصر . وسلمان المدرس ومارى التى " استعصت عليه وأذاقته العذاب ألواناً " ! فقلت ضاحكاً إنك لم تتم محاضرتك ولم تخبرنى عن قصتك مع مارى التى عذبت سلمان !

        قال "لما المحاضرة يا سيدى الدكتور فخلاصة تجارب دفعت ثمنها الدم الذى رأيته فى منديلى ، والعـذاب الذى جشمنى الأرق ليالى لا تنسى ، تريد أن تعرف سر الوصول إلى قلب المرأة قلت ضاحكا " بالعجل" .

        قال "فى بضع كلمات : هى أن تكون جريئاً مغامراً ، وأن تعطى المرأة كل وقتك ، وأن تعنى بصغائرها وتستمع إلى شكاياتها وأحوالها التافهة بصبر . وأن تعلم أن لكل امرأة لحظة واحـدة : لحظة تمر على " الأهبل " بدون أن يدركها . أما "الدون جوان" فلا تفوته . ومع ذلك فما لزوم كل هذا ! إنه ينتهى بأن تلعن نفسك ونفسها . ويوم تكسب المعركـة تجد نفسك قد خسرتها . يا دكتور إنك تسألنى عن مارى التى أذاقت سلمان العذاب . فاعلم أن الواحد منا قد يعثر بامرأة كالصخرة يكسر رأسه عليها أو يرجع ليغير طريق حياته ويخلق نفسه خلقا جديداً .

        إن مارى هذه فتحت عينى لشئ لم أكن أعلمه . علمتنى أن فى روح المرأة كنوزاً هى التى يجب البحث عنها . أما الجسد فكتفاحـةٍ الجنة تعطب وتجر إلى الطرد والحرمان !

        ومن هى مارى ؟ هى فتاة بسيطة فقيرة يخيل لك أنك تصل بسهولة إلى اكتساب قلبها بمالك وحيلك . فإذا بك تحار وتكاد تجبن لأن أوفر منها غنى وأكبر جاها سقطن صيداً سهلاً . أما أنا فأحببتها حقا . فى يوم واحد انكشف لى أفق غريب غير مألوف وتعاقب على سرور وحزن كلاهما رائع ومطهر وعجيب . فى لحظة واحدة سمعت نداء حنوناً كيد مشفقة تمسح جفناً نائماً . ووجدتها بجانبى فعلمت ما هى الحياة ، وكان يتكلم باندفاع وحماس وإيمان فأمسكت بيده مهدئاً وقد أثر بى تغيره أى تأثير !

4

        مرت سنة ، لم أسمع خلالها شيئاً عن مكين ! وعينت طبيبا بالمجلس البلدى بأسكندرية وكانت لى عيادة فى كرموز ، ذلك الحى الوطنى الآهـل بالفقراء ، المنسى البائس فكنت أغشى غمار ذلك البؤس ولى لذة خاصة فى أن أتغلغل إلى أعماقـه وأن أنتقل من العامل البسيط إلى صاحب القهوة البلدى ، كنت أجد  راحة فى أن أجلس إليهم وأفهم كيف يعيشون ، وعم يتكلمون ، وكانت لى لذة خاصة فى أن أصطحب صديقـاً مـن الأغنياء بدون أن أخبره لأطوف به الحى ، ومعى لعبة أو لعبتان للأطفال ، وكنت أجـد لذة خاصة فى أن أفجع ذلك الغنى ، وأنقله من عالمه وأرى الدموع على طرف محاجره ، وتمت لى بسرعة شهوة هائلة بينهم ، فكانت العيادة تزدحم بهـم وبأولادهم ، وكنت لا أبالى أى قيمة يدفعون لى فكنت أعثر آخر اليوم بين نقودى على قطع القرش والقرشين ، فأتأملها صــامتاً مجففاً إياها بيدى شاعراً أنى أجفف العرق السائل على ألف جبين متعب مكدود .

        ذات يوم جاءتنى الخياطة "إيلين" وابنتها : والخياطة إيلين اعتادت أن تأتى بنفسها وتجيئنى بالزبائن ، كانت مريضة فلما شفيت صارت تتحدث عنى لكل عميلاتها الفقيرات وتأتى بنفسـها معهن : ولم أكن أعلم أن لها ابنة إلا هاته المرة حين جاءت مضطربة خائفة . يا لله ! هذه ابنة الخياطة !! هذه القامة اللدنة ، ذلك الخصر الجائع ، تحت الصدر الريان ! . ذلك الفم المتكلم وهو صامت ، والعيون التى تسكن أرواحاً بينما هى تذبح . هذه الزهرة من أنبتها فى ذلك الطين ؟ هذه الدرة من ألقاها فى سلة الأقذار ! . ! وجلست تلهث وهى جالسة ، وظلت تلهث بعد أن استراحت ففهمت كل شئ بدون أن أمد يدى إلى سماعتى ، فقد شاهدت آلافاً من الأحوال الشبيهة بهذه ، لابد من وجود سائل عندها فى الصدر .

        وقمت ففحصتها فتأكد ظنى ، ودفعت بإبرتى فى تجويف الصدر ، فأخرجت صديداً مخضراً سئ المنظر ، فسقطت الإبرة من يدى على غير عمد ، راعتنى تلك الضحية الجديدة ، راعنى ذلك القربان الفخم يقدم للهيكل الذى لا يرتوى ! على أنى تكلفت عدم المبالاة وقلت لأمها : متخافيش ده دمل فى الصدر ! وإن شاء الله ناخد المِدَّة ، وبعد قليل كان كل شئ مجهزا فاستخرجت الصـديد من الصدر ، وكانت الفتاة شجاعة لم تتأوه وذكية خيـل لى أن عينيها تنظران إلى اللانهاية : وأشفقت على أمها فلم أجعلها تشهد أخذ الصــديد ، غير أنى دعوتها أخيراً لتطمئن على ابنتها ، فدخلت صائحة "مارى !" فعند تلك الصيحة مرَّ فى بالى كاللمح أن "مارى" هذه هى حبيبة مكين ! لا أدرى كيف اسـتنتجت ذلك . هناك ألف مارى ! ومارى التى كانوا يتكلمون عنها فى الأقصر . أمـا هذه ففى كرموز ! . ولكنى لم يكن عندى برغم ذلك شك أنها هى : فصـممت على أن أعرف ! فحين جلست أمها أمامى لتتلقى إشارتى جعلنا ابنتها ممدة فوق مائدة قريبة .

        قلت بينما أكتب تذكرة الدواء ، " والله من سنة جالى واحد اسمه مكين أفندى حالته تمام زى حالة مارى ! " فانتبهت مارى والتفتت إلى ، وفهمت كل شئ !

5

        وكنت أعود مارى كل يوم فى بيتهم الفقير فكنت أرى فى كل ركن زهوراً وصوراً وكتباً ، وكانت المسكينة لا تفارق الفراش ، وبالرغم من ذلك ، لم تقع عينى مرة على ملاءة قذرة . وكانت الشمس تبعث كل صباح شعاعاً بخيلاً يقبل فم المريضة وفراشها وصورها وزهورها وكتبها ثم يمضى مفجوعاً ! علمت أن مكين يكتب إليها وأنه انتكس " والحكما قالوا له إن عنده سـائل فى الرئة " فكتبت إليه كاذبة إنها متحسنة وأنها تنتظر أن يشفى ويعود إليها ، وأخبرنى أنها كانت تشتغل فمرضت بالأقصر وهناك تعرفت على مكين وسـلمان وعندما يجيئ ذكر مكين يشحب لونها وتقول ما أطيبه إن فى قلبه أعماقاً أبدية من النبل ! وعندما يأتى ذكر سلمان تنقلب ضاحكة وتقول إن عنده أنف سيرانو على غرور كازانوفا !

        وكانت تطلعنى على خطابات مكين من يوم لآخر ، وأحيانا تطلعنى على ردها عليه وقد أنست بى واتخذتنى ناصحاً وصديقاً . فلم يكن يروعنى غير الآمال التى يبتغيانها فكلما ازدادت حالته وحالتها سوءا ازدادا تعلقاً بالرجاء ، وازدادت خطاباتهما صفاءً وحناناً ورقة وكنت أتساءل أكانت تخدعه ويخدعها ، أم هذا هو الرجاء الواسع الذى يصاحب ذلك المرض اللعين !

        ومرت الأيام وطوى القدر صحيفتيهما ، هى فى الأسكندرية وهو فى حلوان طياً هادئاً هى تبتسـم تحلم وتحب وهو كذلك يبتسم ويحلم ويحب وأنا وحدى أشهد سخرية القدر ، وأذكر المأساة من بدئها لنهايتها !.

 

 

 

 

 

 

الحرمان

 

*  نشرت هذه القصة لأول مرة فى مجلة (الجامعة) العدد 49 بتاريخ (5/1/1933) ، ثم أعيد نشــرها ضـمن كتاب (مدينة الأحلام) الصادر عام 1935 ـ وشغلت الصفحات من (86 ـ 98) .

 

 
 

 


   

        جلست فيفى أمام المرآة ، وبينما هى تضع الأحمر فى شفتيها ، وبينما هى تفكر فى إخوتـها الذين ينتظرونها . وفى السينما التى ستذهب إليها معهم . خطر لها خاطر أضحكها . أن الفرق بين المرآة والمرأة بسيط مدة وهمزة كل ما هنالك .

        هل لاحظ ذلك مجدى الفيلسوف الشاعر الذى لا يفوته شئ ؟ إن لم يكن قد لاحظ ذلك قبلا فهى ستلفت نظره إليه وستجعله موضوع دعابة حين تلقاه

        - فيفى ! فيفى يلا بأه ، إيه التأخير ده ؟

        - حاضر . دقيقة واحدة .

وعادت تكمل زينتها وترتدى معطفها وقبعتها فلم تكد تتناول القبعة وتهم بالخروج حتىوقع بصرها على مجلة (العبرات) موضوعة على منضدتها ، ورأت على غلافها بالخط الكبير (الحرمان - قصة مصرية تأليف يوسف مجدى) من جاء بهذه المجلة إلى غرفتها ؟ أخوها عزيز . فهو الراديو الذى يذيع فضل مجدى ؟ أو أختها (ميمى) ؟ من يدرى ؟ ولكن الحرمان ، ما أقساه من اسم ، لماذا يصر مجدى على تلك النظرة القاتمة للحياة ؟ مجدى الضحوك الذى لا تفارقه الدعابة والذى يستجيد النكتة ويصفق لها ، مجدى شخص آخر فى كتبه ، فهو لا يرى إلا أن الحياة سخرية سخيفة ولا تنزل الستار فى قصصه إلا على مأساة .

 فيفى ! فيفى جرى إيه ؟

        تنبهت فيفى كمن يستفيق من حلم ، ووضعت قبعتها بسرعة ونظرت نظرة أخيرة إلى المرآة وعادت فضحكت لقرب اللفظتين المرآة والمرأة . وخرجت إلى حيث ينتظرونها ومضت معهم إلى السينما .

 

***

        كان السينما غاصا بالناس ، وقد تجمعوا فى بهوه الخارجى كل ينتظر دوره - صنوف متباينة ... فهناك الشاب العارى الرأس  يرتدى بنطلونا واسعا ويضع سيجارة إنجليزية فى فمه ، وهناك الكهل الذى يدعى أنه لم يتخط الشباب ، وهناك الأشيب الذى لا يستطيع أن يغالط ، وهناك المرأة الشابة التى تأكلها العيون ، العجوز المتصابية التى تشيح عنها الأنظار ، وتقبل سيارة بعد أخرى ، فينزل منها ذكر يمد يده ، فتظهر الأنثى عند بابها فيمد ذراعه فتتأبطه وتسير إلى جنبه فى زينتها الكاملة وهو فخور بها يكاد يقول للناس هذه الفتنة هى لى دونكم . ثم يمضى إلى نافذة التذاكر وقد ترك هذه الفتنة حيناً ما وأخرج كل الفضة التى بجيبه كأنما يقول للناس أنظروا إننى غنى .

        وقفت فيفى بعيدة عن رفاقها وقد شرد لبها فجأة وهى تلاحظ ذكراً وأنثى يقبلان فى تاكسى لقد استرعى نظرها ككل امرأة ثياب المرأة أولاً ففحصتها بسرعة من رأسها إلى قدمها . ورأت فيفى نفسها فى الخيال تنزل من سيارة زرقاء جميلة فى أتم زينتها وإلى جانبها رجل ذابل ناحل ؟ أخذ ذراعها فى ذراعه ..

-     فيفى ، تعالى بتتفرجى على إيه ؟ .

        فتركت فيفى ذراع صاحبها فى الخيال والتفتت إلى أخيها عزيز الذى ناداها ، قائلة (رواية إيه النهارده ؟ ماشفتش البروجرام) ؟

        رواية جميلة اسمها (الحرمان)

        فأمسكت فيفى بجنبها كأنما وخزتها حربة ثم تمالكت قواها وتبعت أخاها وشقيقاتها إلى الألواج وألقت نظرة ساخرة إلى الآنسة الجالسة فى نافذة التذاكر كتمثال من الشمع يلقى ابتسامة تجارية هنا وهناك .

        وكانت الألواج ممتلئة وكل جماعة تلقى نظرة متعالية على الجماعة التى تجاورها بعد أن تفحصها وتشعرها أنها أحسن منها قادرة على المجئ إلى السينما كل ليلة .

        ألقت فيفى نظرة على اللوج المجاور فرأت شخصاً بمفرده يدخل فى هدوء وقد جلس جسلة اطمئنان ، ولم يكن يبدو عليه أنه ينتظر أحداً فصاحت فيفى (مجدى أهـه) فانتبه مجدى وأقبل فى ظرف يرد التحية ويتهلل . قال عزيز . تعال أجلس معنا . لماذا تجلس وحدك ؟ دائما وحدك . وفى لوج ! أجاب مجدى . إنى أحب أن أراقب هذه الجماهير من أعلى . أراقب هذا البحر من صخرة بمفردى . فضحكت فيفى وقالت ، دائما فلسفة . إن الفلسفة تأكل جسمك أكلا أنظر كيف أصبحت . مسكينة زوجتك ولكن أين هى ؟ أين هى ؛ ولماذا لم تحضر معك ؟ عزيز يقول إن الروايـة بديعة واسمها كاسم قصتك . فهل هذا محض اتفاق ؟ أم هى التى أوحت إليك . أجاب . بل اتفاق عجيب . أما زوجتى فهى تفضل النوم دائا على السينما .

        وكانت رواية الليلة محزنة قاسية . حبيب على قيد خطوة من حبيبه وهو محروم ، وفقير على قيد خطوة من الثروة وهو محروم . وعليل على قيـد خطوة من الدواء وهو محروم . وظامئ على قيد خطوة من الماء وهو محروم أى شيطان هذا المؤلف ؟ لم يدع محروماً إلا وأتى به وحشره فى روايته . لم يكد ينتهى الفصل الأخير حتى أخذت المناديل تجفف الدموع . دموع الحرمان فى مئـات الأعين .

        ورفعت فيفى منديلها الصغير المزركش لترى أثرالرواية فى وجه ( مجدى ) فصادفت عينها هالتين كبيرتين عميقتين قد دفنتا آلافاً من المتاعب والذكريات . وأخير استقل مجدى سيارته الزرقاء الكبيرة ورأت فيفى سيارة الخيال تختفى بصاحبها فى مجاهل الظلمات فصاح بها صائح خفى أتعجبك هذه السيارة ؟ إنها سيارة الحرمان

        فيفى . دائما سرحانة . يلا بقى . وكان هذا صوت ميمى تناديها .

***

        دق جرس التليفون ....!

   - منزل أنيس بك ؟

   - أيوه حضرتك مين ؟

   - دولت عزمى ، فيفى هنا ؟

   - صوتك متغير !

    - عندى برد

   - سلامتك !

   - بكرة عيد ميلادى وعندى هيصة ولازم تيجوا انتى واخواتك

   - إن شاء الله - ميرسى - أورفوار !

***

        صفية أنيـس . أو فيفى كما يدعونها تدليلا هى مثل تام لفتاة اليوم . كان أبوها رحمـه الله فى سعة من العيش ، وهى أولى بناته فأحسن تعليمها وأرسـلها إلى البون باستير ، والليسـيه ، ولكى تتعلم العربية جاءها بالشيخ مكى ليدرسها العربى بالمنزل وكعادة الأسر المثرية ، يسير بها الخادم فى الصباح ويعود بها فى المساء . ثم مرض أبوها . وكان أخوها الوحيد يدرس الطب فى انجلترا فاستدعوه على عجل فوصل بعد فـوات الأوان ووجد نفسه الرجل الوحيد الذى تعتمد عليه عائلة بجملتها . فانتسب إلى كلية الطب المصرية . وفى الوقت الذى تروى فيه هذه القصة كان يتقدم للامتحان الأخير .

        وكان عزيز كشاب مثقف قضى وقتنا طويلا فى أوربا ، يعطى لشقيقاته شيئاً من الحرية ، ولكنها حرية محدودة لا تتعدى السينما والمسرح والزيارات العائلية . وهو فى نفسه لم يكن راضيا عن هاته الحرية الضئيلة ، ويرى أن التطور وقف بالمرأة المصرية عند حد يدعو إلى الإشفاق ، حد لا حيلة له فيه ولا الشباب المثقف الثـائر أمثاله ، مادامت الرؤوس المحافظة على التقاليد لا تزال حية تتحكم فى الأسرة ، وفى يدها أزمة الأمور ، فلو أن الأمر ترك لعزيز لتمرد على التقاليد وقذف بالموائد البالية ، ولكن هناك أمه وعمه وخاله ، وعمته وزوج عمته ، حوائل لا تصد وألسـنة لها الله ! وكانت فيفى المسكينة التى قضت أوقاتها بين البون باستير والليسيه ، وقرأت موباسان وبورجيه وأناتول فرانس ، وسافرت فى صحبة الراهبات إلى باريز ، فيفى تعود إلى بيت أبيها لتتناول من الحرية جرعا مناسبة لصحتها ، ولتنتظر الزوج الذى تأتى به أم محمـود الخاطبة ! فيفى ترى مجدى صديق أخيها من الطفولة ، فترى مثل الشاب المتحرر يصطدم بالعوائد فيتزوج بواسطة الخاطبة كما ينتظر أن تتزوج هى ! ألفت أن تراه معهم وبينهم لأنه صديق قديم وكانت تخالسه ويخالسها نظرات طويلة من العذاب والحرمان ، وطالما رأته يستقل سيارته الزرقاء فوقفت إلى النافذة وأتبعته نظرة ساهمة طويلة ، ورأته يبادلها نفس النظرة التائهة الشاردة !

        كانت فيفى تستعرض فى فكرها كل ذلك حين قـرع جرس التليفون صديقتها دولت ، التى ثارت على التقاليد مرة واحدة ودعت إلى صالونها شبانا وشابات يتحادثون ويلبون نداء الجنس فى أدب تام وحياء كامل ، ولكنها كانت تذهب إليها كارهـة لأنها كلما ذهبت تعود بحسرة . لأنها هناك ترى مجدى وتستطيع أن تخلو به ، ويرجعان سوية ثم ينصرف كل إلى الطريق الذى رسمه له القدر ولا خيار له فيه !

 

***

        مجدى ! دائما مجدى ! يالله من عينيه ، إنهما تتبعانها حيث سارت وتقتفيان أثرها حتى فى أحلامها ، كان ينمحى جسده كله ولا تعود ترى غير عينين فيهما بريق هائل وأغوار عجيبة ، وطالما صاحتا بها : أتعجبك هذه الأعين ؟ إنها أعين الحرمان ! فتستيقظ على عذاب يتغلغل فى كيانها وتود وهى تشعر أنها تحب هذا الشخص الذى يفهمها وتفهمه تماماً .. تود لو مضى من هذه الدنيا إذ هى لا تملك السبيل إليه . ومادام هو صامتا صمت الليل الذى لا يتكلم إلا بكواكبه .

-  فيفى سرحانة فى ايه ؟ دائما عقلك شارد ؟ فانتبهت كمن يعود من عالم بعيد مجهول ، ومرت بيدها على جبينها البديع تهدئ ثورة ، وتعيد إلى مكانها ذكريات محمومة تهم بالوثوب ، فلمست خصلة متمردة من شعرها الكستنائى البديع ، فارتعدت ... شعر كستنائى جميل وقوام يقولون إنه مثالى . فتاة الليسية والبون باستير ... ولكنها حبيسة أسيرة ، ثمرة ستعطب على مهل أو يتناولها من يسرع بها إلى العطب . سيان إذن ، مادام العطب هو الختام !

-  فيفى . جرى إيه ؟ ماما بتنده عليكى ! فأسرعت فيفى إلى أمها :

-  فيفى . أنا رايحه عند تيزتك حميدة هانم ، والليلة أنتم معزومين عند دولت . دولت طالعة فيها ، إياك أسمع أنكم شربتم أو رقصتم !

- حاضر يا ماما . ثم قبلت ابنتها وانصرفت .

        وقفت دولت فى ثـوب رائع ، وقد قصت شعرها أكثر مما يجب فظهرت كغلام فتان . أقبلت فيفى متهللة وفى ذيلها أختها الصغرى ميمى ، وفى ذيل هذه رشيدة .

-  أهلا فيفى ! سنة محدش شايفك ، اتفضلى أقدمك للضيوف .

        وكانت الأركستر تعزف فى البهو المتسع ، وفى الصالون جلس خليط من النساء والرجال ، فقدمت دولت صديقتها فيفى للجميع وعرفتها بهم فرداً فرداً ، وبعد أن أجلستها همست فى أذنها : مجدى سيحضر بعد قليل .

        إذن دولت تعرف أن مجدى يهتم بفيفى ؟ من أين تعرف ؟ هى لم تخبرها ومجدى لم يخبرها لأنه لا يتكلم . إذن من أخبرها . هو قلب المرأة ، ذلك الترمومتر الحساس الغريب ، قلب المرأة الذى يبصر ويشم ويسمع ، والذى له ألف إحساس وألف عين وألف أذن . ورن صوت نفير . صوت تميزه من آلاف غيره من الأصوات ، نفير السيارة الزرقاء ، سيارة الخيال ، سيارة الحرمان وأعين الحرمان .

***

        وبعد حين قدمت دولت إلى الضيوف مجدى قائلة .

 

        "الأستاذ يوسف مجدى الشاعر . كلكم عارفينه بالطبع"

        وكان مجدى يبدو محنى الظهر كمن يحمل أعبـاء كثيرة . ويكاد الذكاء ينطق فى جبينه الواسع الذى بكرت إليه الغضون ، وكانت له مشية الواثق الذى تكونت شخصيته وأيقن إلى أيـن يمضى . وقد ظهر ذلك تماما وهو يختار مجلسه فى غير تردد كأنما بينه وبين المكان ألفة قديمة . وكانت فيفى بعيدة عنه تراقبه من ركن مظلم قليلا وتتعمد أن لا يراهـا . لقد كانت تخشاه . وتخشى ما ينتظره من المجد . وتخشى إقبال النساء عليه . وتخشى نفسها . ومع كل ذلك تود لو أن شيئاً الفت نظره إليها .

        وبعد ، فماذا يرى فى ذلك الشاعر الناحل المريض ، وماذا يغرى النساء به ، ها هى أمينة س . تتقدم بكرسيها إليه . وها هى جليلة تراقبها فى غيرة . وهذه دولت نفسها تكاد تمضى لترى شؤون الدار حتى تبادله كلمة . أو تسأله إذا كان بحاجة إلى شئ .

        كل هؤلاء الفتيات يرين فى هذا الرجل شيئا خفيا يجذبهن إليه ، ويجيش فى صدورهن ، كل هؤلاء الفتيات مثلها حبيسات ، ثمار مثلها مهددات بالعطب والبوار إذن لماذا تحسدهن .

        إن التى تجر كرسيها إليـه كالتى تراقبها كصاحبة الدار ، لو استطعن لصحن فى صوت واحد الحرمان . الحرمان .

        ومـع ذلك فما هو شعور هذا الرجل . إنه لا يتكلم إلا إذا نظم قصيدة يتناقلها الناس وتصير على كل لسان ، قصائد كأنما ينتزعها من أعماق بركان أغلقت فوهته وهو ثائر ...

        كانت فيفى تقول هذا الكلام للدمية الصامتة الموضوعة فى الركن المظلم بالقرب منها حينما انتبهت إلى صوت دولت تقول :

        " البوفيه اتفضلوا ...

        وقاموا إلى البوفيه .

        ووجدت فيفى نفسها تجاور مجدى . ففتح هو الحديث قائلا : أين عزيز . أجابت : عنده امتحان باكر ـ قـال إنى دهشت لمجيئكم من غير رجل فى صحبتكم على غير العادة . أجابت : جئنا فى سيارتنا ومعنا سواقنا . فقطع عليها مجدى الكلام قائـلا : فيفى . إن الليلة باردة وأنت عارية الذراعين وأنا أخشى عليك ، قالت ضاحكة : عجبا هل أصبحت طبيبا . قال دعينا من المزاح إنى أخشى عليك حقا ، واتخذت هيأته مسحة الجد وقال فى صوت رقيق منخفض فيـه رنة عجيبة من الطيبة والإشفاق والحنو شد ما أخشى عليك لو تعلمين . وأحست فيفى أن دمعاً يتجمع فى عينيه وهو ينظر إلى جسمها النحيل مشفقا على ذلك الجسم من البرد والأذى .

        إذن هو يحبها . ربما . آه لو ينطق أبو الهول .

        ومرت دولت بهما كما تمر الريح الساخرة وتعمدت التى جرت كرسيها إليه فى البهو أن تلهيه عن فيفى ، والتى غارت أن تنتزعه من كلتيهما . فدعتاه إلى الرقص بعد البوفيه فأبى ، وإلى كأس من الوسكى فأبى . وانصرف إلى فيفى فقادها إلى مكان لا يتطرق إليه البرد ، وكان ينظر إلى جسدها الرقيق كمن ينظر إلى كنز يحرص عليه ، فهل كان يتمنى أن يأخذه بين ذراعيه .

        بالرغم من ذلك شعرت فيفى بالبرد وأحست برجفة وبحاجتها إلى الانصراف فأستأذنت صديقتها راغمة واصطحبها مجدى هى وأختيها ، وقد لفها بمعطفه وجلس ساكتا مشفقا والسيارة تنهب الطريق .

***

        أمسكت فيفى جنبها بيمناها وهى تتنفس بصعوبة فائقة . وهمت بالقيام من فراشها فلم تستطع ، خانتها رجلاها وأتعبها الجهد فلهثت كمن جرى بضعة أميال . وكانت أمها تمر فى طريقها إلى غرفتها . فرأت ابنتها تهم بالقيام ثم تعود فترقد فراعها ذلك وأسرعت إليها . وما لبثت أن صاحت أنت محمومة . ألم أقل لك أن تتقى البرد . ماذا نفعك الذهاب إلى دولت . واندفعت تتكلم وتسب دولت وأخلاق دولت وهـذا العصر الذى فسد فيه كل شئ . والذى يجرى فى تياره حتى بناتها التى تعبت فى القيام على تربيتهن . وجاءت دادة حليمة على صوت سيدتها لتسأل عن الخبر . فوجدت الأم فى هذا السؤال دافعاً جديداً للسخط على ابنتها وعلى صديقة ابنتها . وبعد أن بلغت قمة الغضب . انحدرت فجأة إلى سفح الحنان وذهبت لتبحث عن الترمومتر . وتقلب دفتر التليفون باحثة عن نمرة كلية الطب لتستدعى ابنها عزيز ثم تترك هذا لتبحث عن علبة الاسبرين . ثم تنتقل إلى الأجزخانة الصغيرة المعلقة بالحائط لتبحث عن شربة الملح فلم تجدها . ثم تتذكر فجاة أن ميمى تعرف مكان كل شـئ فتسرع إليها لتوقظها . كل هذا وفيفى تشعر فى جنبها بوخز كالحراب . وقد غمرتها الحمى وتوهج خداها وانتثرت ذوائب من شعرها الجميل متراخية أسيفة .

        وعادت الأم وبناتها يحملن ما يعرفنه صالحا لمعالجـة الحمى . وهن ينتظرن المدد من أخيهن . وأخيرا أقبل هذا المدد مضطرباً شديد الإشفاق ، وأسرع إلى فيفى فتناول معصمها وعد النبض . ثم أخذ سماعته ففحص الصدر والرئتين واستعرض فى ذهنه سريعاً ما قرأه فى أمراض الصدر ليلة أمس . الامتحان قاب قوسين وهو لا يعرف كيف يشـخص حالة كهذه . وبفرض أنه شخصها . ماذا يصنع أكثر مما صنعه هؤلاء السيدات . ثم يدعو مجدى . مجدى ليس بطبيب ولكنه مخلص ذكى وسيقف بجانبه فى هذه المحنة كما وقف فى كثير غيرها . ثم صاح متكلفا الطمأنينة ومخاطبا أمه :

-  حاجة بسيطة . برد ويزول إن شاء الله . حقنة كافور ودواء بسيط من الأجزخانة .

        وذهب إلى غرفته ليجهز الحقنة وينسخ التذكرة من دفتره الصغير ثم أرسل الخادم بخطاب إلى مجدى يستدعيه .

***

        لم يكن مجدى فى المنزل حين ذهب الخادم بالخطاب . فأعطاه لزوجته . ففتحته كعادتها فى الخطابات التى ترد لزوجها بلا استئذان . وقرأته كمن يتهجى وألقتـه على المائدة القريبة وهى تسخط : دايما عزيز وأهل عزيز . ماذا يريدون من مجدى ألا يتركونه مرة مرتاحا . ما شـأنه هذه المرة بهذه الفيفى . ولماذا لا يستدعون الطبيب يا لهم من بخلاء . وسيذهب مجدى ملبياً دعوتهم بالطبع وستحرم منه ساعات طويلة وسيعود إليها منهوك القوى . غائر العينين شاحب الوجه . ألا يفهم أنها تحبه . ألا يفهم أنها تريد قربه . يا لله متى يفهم ومتى يدرك أنها أحق من هؤلاء الناس بتلك الرعاية التى يبعثرها هنا وهناك . إن فيفى ليست أجمل منها . ودولت التى تدعوه إلى منزلها من حين لآخر ليست أرشق منها قواما . وم . هانم الجريئة التى تطلب منه مؤلفاته بالتليفون ليس لها سحرها ولا فتنتها . إنها ستطلب إليه حين يعود إلى المنزل أن لا يلبى دعوة ولا يزور أحداً . إن الناس تفسده وتغير طباعه . وكم حاولت أن تصرفه عنهم وأن تبهجه وتسره . فحاولت عبثا وهى تشعر أن المسافة بينه وبينها تبعد . إنه يهجرها إنه لا يجد لكلامها معنى . أصبحت لا تراه إلا عندما يأتى إلى هذه اللوكاندة ليأكل ويستريح ثم يمضى إلى حيث يحمل أعباء العالم ، موزعا قلبه مضيعا شبابه يا حسرتاه . وهل له من شباب . ماباله لا يتكلم . ما باله لا يفتح قلبه ولا يخرج عن صمته الشنيع . وأخيرا جلست فى ركن وحدها تنتحب .

 

لقد كانت رقيقة تحب مجدى حقا .

 

        ولكنها كانت تحب نفسها . وهذا ما جعل حبها ضئيلا قزمـا كالشعلة الضعيفة لا تنير إلا قليلا . ولا تفيد إلا حرارة لا تجدى فتيلا . ومجدى الذى يفهم كل شئ يعرف هذا . وطالما صرح لها به فظنت أنه يجرحها واسترسلت فى البكاء والتنويح أياماً .

        ولما عاد مجدى ناولته الخطاب مفتوحا فنظر إليها مجدى ثم إلى الخطاب وكظم غيظه . قالت ساخطة :

        جيت ليه . روح لأصحابك . أصحابك كتير عايزينك . فشخص بصره إليها كاظماً غيظه أيضاً فاستتبعت قائلة : الساعة كام الآن . الرابعة بعد الظهر . فأين كنت . مسكينة هذه الكلبة تنتظرك . وستتناول غذاءك الآن فى صمتك المريع وتخرج أيضاً إلى حيث يتخاطفك العالم والأصحاب ، وستعود شاحباً مريضاً تحمل أعباء الدنيا فوق رأسك ، لا لتنام بل لتسهر وتفكر .. وتفكر وأخيراً . وأخيراً . أصبحت عيشتنا لا تطاق . فشخص إليها كاظماً غيظه للمرة الثالثة .

        قالت وقد هدأت ثورتها قليلا . والآن أريد رأيك . بدى أعرف لى حل

        قال فى هدوء كامل وضبط نفس عجيب تريدين رأيى . أنت تعرفينه ومع ذلك فإنى أعيده على مسمعك . إنى أشفق على بصرك الذى لا يرى أكثر من باب هذه الغرفة وعلى روحك التى لا تزيد فى الحجم عن روح النمـلة أنا لا أكرهك وإنما أنا حزين . حزين حتى الموت ! فصرخت قائلة : أنت تهيننى وتجرحنى . قال معاذ الله . ودار على عقبيه وخرج مسرعاً . أما هى فانتقلت من سيل من الكلمات إلى فيض من الدموع والزفرات . واقبل المساء بسرعة ومعه الرهبة والقلق اللذان يلازمان الظلمة ، ومعه إحساس خفى مجهول بأن القدر ينظم مؤامرة خلف الغسق القرمزى الداكن . بهذا أحس جيش الأحباب الواقفين حول فراش المريضة . وبهذا أحس عزيز الطبيب المبتدئ الصغير أمام العدو الخفى الكبير وهو ينظر من خلال ستور النافذة ويتسمع إلى صوت سيارة قادمة .

        يا لله ! سيارة تحمل شخصاً ليس بطبيب ومع كل ذلك ، ففى النفير صوت الخلاص ! ألم يتهلل عزيز ؟ ألم تفتح المريضة عينيها وتبتسم أساريرها لأول مرة فى نهار عابس مستطير ؟ ها هو نور قادم من بعيد يبشر بابتسامته أن قارب النجاة فى أثره ، ليكن كاذباً أو غير كاذب ، فإن على شفتيه ابتسامة ، وربما كان الموت نفسه عزباً على ضوء حنان كهذا ؟

        قال مجدى لعزيز على حدة : ليس عندنا دقيقة نضيعها . ألا ترى الزرقة التى تعلو شفتيها ؟ أنا لست بطبيب . وإنما يمكننى أن أدرك بسهولة أن هــذا من قلة الهواء الصالح فى رئتيها ، ثم انك تقول إن عدد نبضاتها فوق المائـة ، علينا أولا بطبيبين معك يشدان أزرك وبعد ذلك علينا أن نتناوب السـهر ! فنظر إليه عزيز مدهوشا من ذكائه العجيب وخرج ليستقدم طبيبين يثق بهما وترك مجدى فى مكتبه .

        وجد مجدى نفسه وحيداً ، فزال القناع الذى لبسه منذ هنيهة ، سقط بالرغم عنه ووقف مستنداً إلى النافذة ناظراً إلى اللانهاية السوداء كرجل سحقه الدهر سحقا . فيفى فى خطر المرت . وكل بضاعته فى سبيل إنقاذهـا قلب وابتسامة ! لماذا لم يكن الطبيب الذى يعنى بهـا ! لماذا لم يكن زوجها ؟ زوجها الذى يأخذها بين ذراعيه مقبلا خصلاتها الناعمة وعينيها الذابلتين ؟ لماذا ؟ ولماذا يمضى إلى منزله ليتلقى العاصفة بعد العاصفة وقـد شبعت روحه من تقلب الأنواء والأعاصير ؟ آه أيها الحرمان . إنك جاثم فى اللانهاية السـوداء كعقاب هائل ناشراً جناحيك على العالم ماداً مخالبك القاسية ، ها هو مخلب منها يصل إلى روح الشاعر المسكين فيتحسس مكانها ، محاولا أن ينتزع المخلب فلا يستطيع ، وأخيراً ! ها هم الأطباء الذين سيشفون فيفى ولكن لا هو الذى سيسهر بجانبها هو الدخيـل الغريب ، الذى ليس له من صفة إلا أنه صديق أخيها . وهو أقرب الناس إلى المريضة الموسدة . أقربهم إليها لأنها توأم روحه ولأنه قدم قلبه الذبيح على هيكل الحرمان ! واستنجد بدمعة يخفف بها عن نفسه فلم يجد لأن دموعه قتلتها فى محاجرها كبرياء الرجل الذى يأنف أن يبكى !

***

        قال الأطباء إنه التهاب رئوى وإنه صراع بين الحياة والموت ، وكتبوا تذاكرهم وتركوا أوامرهم ومضوا . وماذا يعنيهم بعد ذلك ؟ لقد شاهدوا ألف فيفى وألف التهاب رئوى ، وأصبحوا يتناولون أخبار الموت والشفاء فى هدوء كما يتناولون الطعام !

        وكان مجدى يترك منزله وعمله غير مبال بما يقال عنه إلى حيث يتناوب السهر مع عزيز ، وكانت المسكينة فى غيبوبة تامة لا تدرى من أمر الدنيا شيئاً .

        كان الضحى يهم أن يطلع ، وقد تعب عزيز وأكرى فوق الكرسى الطويل بجانب السرير ، وكان مجدى خائر القوى يهم أن يلقى بنفسه من العيـاء فوق الكرسى المجاور لصديقـه حين فتحت فيفى عينيها . أفاقت وتلفتت إلى الدنيـا حائرة كمن يعود من عالم الغيب ، ورفعت عينيها إلى الساهر فوق رأسـها وقد فهمت كل شئ !

        ثم طلبت جرعة ماء ، فسقاها ، ثم وضع الكوب مكانه ، وأقبل عليها فاحتضنها وقبلها مراراً ، فنظرت إليه بعينيها كأنما ترد قبلاته بأبصارها ، وفتح عزيز عينيه ، فرأى فيفى فى ذراعى صاحبه ، فأغلقهما كمن لا يرى ..!

        وسمعها تقول إنى أشعر بالشفاء ..! وسمعه يجيب : وأنا أيضاً !

        ورأى نفسـه فى النوم يصارع القدر ويضربه لأن مجدى لم يكن زوجا لفيفى !


تعليقات