"أولاد حارتنا" وجام
جمشيد
أ د عبد الرحيم الكردي
"جام جمشيد" كأس سحرية ورد ذكرها في
الأساطير الفارسية القديمة، عثر عليها الملك الفارسي جمشيد، أحد أبطال الشاهنامه، في أطلال إحدى المدن القديمة، هذه الكأس من ينظر فيها يرى صورة العالم، ويعرف ما كان، وما سوف يكون، وما هو كائن، وقد أكثرالشعراء المتصوفة من
ذكرهذه الكأس، باعتبارها رمزًا للتجلي والانكشاف الصوفي، من أمثال حافظ
الشيرازي ونسيمي[1].
هذه الكأس السحرية تشبه العمل الفني، وبخاصة
رواية "أولاد حارتنا" التي نحن بصدد الحديث عنها، فكل من يقرأ قصيدة أو
رواية أو يشاهد مسرحية أو لوحة فنية يفهم منها شيئًا قد لا يتفق مع ما يفهمه
الآخرون، ويشعر عند تلقيها بلذة تختلف عن اللذة التي شعر بها الآخرون، وربما لو
قرأها أو شاهدها هو نفسه مرة ثانية أو ثالثة فإنه سوف يشعر في كل مرة جديدة بشيء
جديد ويشعر بلذة جديدة، فالنص الأدبي والعمل الفني يدخر دائمًا شيئًا جديدًا لكل
قراءة جديدة، ولذلك فإن الناس يعيدون قراءة القصيدة مرة بعد مرة ويشاهدون المسرحية
مرات عديدة، ويحرصون على مشاهدة اللوحة الوحدة عدة مرات، ومن ثم فإن الأعمال
الأدبية الخالدة لا تفقد قيمتها مع مرور الزمان لذلك يحرص الناس على اقتنائها، بخلاف الصحف
ونشرات الأخبار، فإنها تفقد قيمتها بمجرد الاطلاع على محتوياتها، وهذا هو مكن جمال
الفن وسحره، ومكمن خطورته أيضًا.
هذا التجدد المشع
بالدلالات والمشاعر في الأعمال الأدبية والفنية يختلف عن التعدد الدلالي في
الكتابات غير الأدبية، لأن التأويلات في هذه الكتابات غير الأدبية تنشأ الاحتمالات فيها من الغموض اللغوي أو من
التباس الإعراب أو من احتمالات عود الضمائر أو من تعدد المعاني للفظ الواحد أو من
تأويلات القراء، لكن تدفق المعاني والمشاعرفي العمل الفني أوالأدبي ينشأ من كون
قراءة العمل الفني في ذاتها نوعًا من الإبداع والخلق، فالقارئ للفن والأدب مبدع
مثله مثل الفنان والأديب، وهذا ينشأ من الطبيعة الأسطورية للفن، وفي طريقة تركيب
العمل الفني وطبيعة مادته وأنواع تقنياته، وهذا الأشياء هي ما تجعل العمل
الفني قابلاً لقراءات لا حدود لها، وهي
السمة التي تسمى "القراءة الخلاقة".
كما أن العمل
الفني نتاج نوع من التفكير يختلف اختلافًا بينًا عن التفكير الذهني المنطقي، هذا
النوع هو التفكير الأسطوري. وهو أحد طاقات العقل البشري، وكل إنسان مزود بهاتين
الطاقتين العقليتين: الأسطورية والذهنية، لكن الناس يتفاوتون في مقدار كل منهما،
فعلماء الرياضيات مثلاً يتفوقون في القدرات الذهنية التجريدية، أما الفنانون
فيتفوقون في القدرات الأسطورية التخييلية، وأداة الذهن فهم المعاني المجردة، أما
أداة الخيال فهي الإدراك الحسي، لذلك نرى الفيلسوف والعالم والرياضي إذا أراد كل
منهم أن يفهم المحسوسات حولها إلى مجردات، فالرياضي مثلاً إذا رأى ثلاث زهرات فإنه
يحول ما رآه إلى الرقم ثلاثة، هذا الرقم معنى مجرد، تتحول فيه كل زهرة إلى قيمة
عددية مجردة، وعندئذٍ ليس لديه فارق بين ثلاث زهرات وثلاثة رجال أو ثلاثة أحجار، أما
الشاعر فإنه عندما يصف هذه الأزهار فإنه يدركها بمشاعره، فتبوح له كل زهرة على حدة
بما فيها من جمال، وقد تتحول الزهرات في عينيه إلى فتيات جميلات يرتدين أزهى
الثياب ويعبقن بأزكى العطور، ومن ثم يكون لكل زهرة خصوصيات لا تتوافر في أي زهرة
أخرى، بل لا تتوافر في الزهرة نفسها عندما يرسمها فنان آخر، بل إن المعنويات
والمجردات نفسها إذا تناولها الشاعر فإنها تتحول في ناظريه إلى محسوسات، فـ"الحرية
"مثلًا - وهي معنى ذهني مجرد - تتحول إلى شيء محسوس عند أحمد شوقي عندما عبر
عنها تعبيرًا أسطوريًا تخييليًا في قوله:
وللحرية الحمراء باب بكل يدٍ
مضرجة يدق
ففي هذا البيت يصور
هذه الحرية فتاة عذراء تنتظر من يدق باب
بيتها من الخطاب، وأنها ترتدي فستانًا أحمر بلون الدم، وأن الثوار الراغبين في
الحرية يدقون بابها، راغبين في وصالها، وأيديهم مصبوغة بالدماء، وامرؤ القيس عندما
أراد أن يتحدث عن معنى مجرد وهو الليل، وهو جزء من الزمن، صوره على هيئة جمل يتمظى بظهره ويبرك فوق صدره بكل
ثقله، يقول :
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف
أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
هذا التصوير
الحسي الأسطوري الذي يدرك به الأدباء والفنانون العالم من حولهم ويصورون بواسطته
ما يرونه لا يمكن استقباله والتفاعل معه إلا بواسطة الأداة نفسها وهي الإدراك الحسي الأسطوري نفسه
من قبل المتلقين له، فالقارئ للراوية والمشاهد للمسرحية والمتأمل في اللوحة الفنية
يدخل إلى العالم السحري الذي أعده له الفنان في داخل هذا العالم السحري، ويسلم
طائعًا بقوانينه وشروطه ويفكر بمنطقه ويتكلم بلغته ويتفاهم بشفراته الدلالية،
فيتخلى عن المنطق العقلاني الذهني الصارم
الذي كان يتعامل به في الحياة المعيشة، ويتخلى عن اللغة الإشارية المباشرة، فيصدق تخيلًا
بأن فرس امرئ القيس "مقبل مدبر معًا"، وأن عاشق ليالي القاهرة في شعر إبراهيم
ناجي يعدو هو ومحبوبته فيسبقان ظلهما، وأنهما قد شاهدا الفرحة تثب أمام عيونهما،
هذا المنطق الذي يفكر به الفنانون والأدباء والذي يتلقى به القراء والمشاهدون
النتاج الفني يمكن تسميته بمنطق الفن.
ومن ثم فإن من
يعمد إلى قراءة العمل الأدبي أو الفني بواسطة المنطق الذهني فسوف يحكم على الشعر بأنه كذب، كما قيل:"أعذب الشعر
أكذبه" أو أنه تجديف أو جنون، لأن هذا القارئ حينئذٍ يشبه من يحاول قراءة نص
مكتوب بلغة أجنبية عن طريق معجم لغة أخرى ونحوها وصرفها، وهذا عينه ما وقع فيه
كثيرون من قراء نجيب محفوظ وناقدي أعماله، وبخاصة في قراءتهم لهذه الرواية
المظلومة (أولاد حارتنا) فقد فهموا أن كمال في الثلاثية هو نفسه نجيب محفوظ،
وفهموا رواية أولاد حارتنا على أنها تاريخ للديانات وسيرة للأنبياء والرسل،
فاتهموه بالتجديف في الدين وبالإلحاد، وانصرفوا أو غفلوا عن المغزى الحقيقي
للرواية، وتجاهلوا أو جهلوا القيمة الفنية فيها، لأنهم تعاملوا معها على أنها كتاب
وليس عملاً فنيًا - كما قال أحمد كمال أبو المجد في تعليقه على الرواية - وكل ما
فعله نجيب محفوظ أنه وظف التراث الديني الإسلامي وغير الإسلامي في الفن، التراث
الشعبي الذي ترسب في العقل العربي.
ولم يكن نجيب
محفوظ بدعًا في ذلك، فقد صور الحارث المحاسبي نفسه وهو في العالم الآخر تصويرًا
قصصيًا جميلاً في كتابه "التوهم"، وكتب المعري رسالة الغفران على أن
أحداثها تدور في الجنة وفي جهنم، وكتب عبد الرحمن الجامي قصة يوسف وزليخا.
ونجيب محفوظ في
توظيفه لهذا التراث لم يتناوله بالرفض أو السخرية، بل تناوله باعتباره مادة صنع من
خيوطها لوحة فنية موحية بشتى الدلالات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية، لوحة
يرى فيها كل من ينظر إليها صورة العالم أو عالمه الذي يعيش فيه، فربما رأى فيها
أحد القراء نقدًا للسلطة السياسية، ورأى فيها آخر نقدًا للمتاجرين بالدين، ورأى
فيها ثالث نقدًا للمجتمع، إنها مجرد هيكل فني جميل قابل لما لا يمكن حصره من
دلالات وتأويلات.
كل ذلك لأن نجيب
محفوظ أبدع هذه الرواية بطريقة فنية محكمة واستخدم فيها تقنيات ماهرة مثل تقنية
المرايا السردية، وصب أحداثها في قالب فني نابض بالحياة، وربط بعضها بالبعض الآخر
بشبكة من خيوط التوازي والتشابه والتقابل والتوالي والتقاطع والإيقاع والعطف
والتناص والمفارقات والمراوغة وتبادل السياقات، وأدار بين كل هذه المكونات صراعًا
دراميًا عنيفًا متتابع الحلقات، ثم صاغ كل هذا العالم المتخيل بلغة حسية مجسمة، لغة
المشاعر ومدركات السمع والبصر واللمس والشم والتذوق، وحمل كل عنصر من العناصر
السابقة طاقة إشعاعية وشعورية يمكن أن تكون خيطًا في صور غير محدودة العدد قد
تتشكل في عقول القراء، بعد أن يضيف كل قارئ إلى هذه الخيوط خيوطًا أخرى يستوحيها
من واقعه الذي يعيش فيه.
المرايا السردية.
وأول ما يلفت
انتباه القارئ في هيكل البناء التخييلي والتركيب الداخلي لعالم الرواية هو وجود أربع
مرايا متجاورة تنعكس عليها جميع أحداث الرواية بصورة صريحة أو ضمنية، المرآة
الأولى تتمثل في التراث الثقافي والديني والأسطوري والتاريخي في الحضارة
العربية الإسلامية، ليس في كينونة هذا التراث وحقيقة وقائعه التاريخية كما هو
موجود في الكتب، بل كما تترسب صورته في العقل الجمعي الشعبي العربي، هذا التراث تختلط
فيه الحقائق التاريخية والدينية بالأسطورة،
يبدأ بقصة الخلق منذ آدم وحواء وإبليس ثم قتل أحد ابني آدم لأخيه، ثم ظهور
الرسل واحدًا بعد الآخر: موسى ثم المسيح وأخيرًا محمد عليهم السلام، وأخيرًا يأتي
العلم ليهدد كل هذه المنظومة برمتها.
هذا التراث
التاريخي والديني بكل مافيه موجود في عقل القارئ الافتراضي للرواية وفي قلبه، لأن
الرواية مكتوبة للقارئ العربي، ومن ثم فإن كل هذا المخزون الثقافي حاضر في كل صفحة
من صفحات الرواية، ويعد جزءًا لا يتجزأ من النص الروائي، وسوف نرى كيف وظفة نجيب
محفوظ توظيفًا فنيًا متقنًا، واستدعاه وصنع منه أهم مرآة سردية مشعة بالدلالات والمشاعر.
المرآة الثانية مكونة من مجموعة من اللوحات التصويرية القصصية المتخيلة،
في خمس حلقات متتابعة زمانيًا، تجري
أحداثها في حارة من حارات القاهرة القديمة، وفي كل حلقة من هذه الحلقات يدور
الصراع بين قوتين أو سلطتين، تمثل الأولى الحق و الخير والعدل والمساواة والإصلاح،
وتمثل الأخرى الشر والبطش والظلم والقهر والفساد وسفك الدماء، وفي كل مرة يظهر
فيها مصلح يدعو إلى الخير، تتكالب عليه وعلى دعوته عصابات الشر وإخوان الشياطين من
نظار الوقف الذين يوهمون الناس البسطاء بأنهم يمثلون صاحب الوقف وأنهم القائمون
على حفظ شريعته وصاياه العشرة، وهم في حقيقة الأمر لصوص فاسدون مستغلون يشترون
بهذا الوصايا أموالاً طائلة يقتطعونها من أقوات الفقراء ويقتسمونها مع أعوانهم بل
أيديهم الباطشة من الفتوات والبلطجية، في كل مرة ينتصر فيها داعية للإصلاح، تتكالب
عليه هذه العصابة الشريرة فينطفي نور الإصلاح ويعم ظلام القهر ونظام الفتونة
وشريعة الغاب مرة أخرى، ثم لا يلبث الزمن أن يجود بمصلح جديد بطريقة جديدة، فيضيء
نفق حياة الحارة ببصيص من الأمل في الحرية، ثم يعود جيل جديد من أنصار الشر مرة
أخرى فيتآمرون على المصلح ويطفئون شمعة الأمل ويعم الظلام مرة أخرى،هكذا دواليك تتوالى
حلقات الحكاية في سلسلة واحدة ممتدة عبر خمسة
أجيال، منذ أن وجد أول رجل وامرأة حتى الآن.
والمرآة الثالثة هي الحكاية السابقة
نفسها، حكاية الخير في صراعه مع الشر، ولكن هذه المرة بطريقة ملحمية يتغنى
بها شعراء الربابة الذين يجلسون في المقاهي ويقصون على سامعيهم من السكارى
والحشاشين وأنصاف المستيقظين سيرة البطولات التي قام بها أجدادهم العظماء من
بطولات، وما حققوه من إقرار للعدل والرخاء والخير، والتي تمثل تاريخ الحارة في
العصور المجيدة، ويصبح العالم الخيالي لهذه القصص هو السلوى والملاذ الذي يفر
أبناء الحارة إليه من جحيم واقعهم المظلم، أو يجدونه بديلاً عنه، فهذه الحكايات
بالنسبة لهم وسيلة للهروب من الواقع مثل شرب البوظة والحشيش.
وأما المرآة
الرابعة والأخيرة فهي الواقع الحقيقي المعاصر لكتابة الرواية وقراءتها، بكل
أحداثه السياسية والدينية والفكرية، وهو واقع متغير بتغير القراء، وهو أهم عامل في
توجيه الدلالة أو خلقها عند كل قراءة جديدة، لأن كل ناظر في كأس جمشيد سوف يرى
عالمه هو من خلال انعكاس قسمات وجهه، وليس
كينونة العالم وحقيقته الموضوعية.
تراسل المرايا .
وكل حدث من
الأحداث بل كل شخصية من الشخصيات نجد لها ظلا أو طيفًا في كل المرايا الأربعة في وقت واحد،vويمكن تصوير ذلك في الشكل التالي :
في المرآة الأولى |
في المرآة الثانية |
في المرآة الثالثة |
في المرآة الرابعة |
المصلحون (آدم
وهابيل وموسى وعيسى ومحمد وأهل العلم الحديث) |
المصلحون (أدهم وهمام وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة) |
السيرة البطولية لأدهم وهمام وجبل ورفاعة وقاسم |
دعاةالإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي |
المفسدون (إبليس وقابيل وفرعون والمتآمرون على المسيح والكفار المتآمرون
على محمد صلى الله عليه وسلم والطغاة المستبدون المعاصرون الذين وظفوا العلماء لترسيخ استبدادهم |
المفسدون ( إدريس وقدري ونظار الوقف وفتوات الحارة ) |
سيرة مؤامرة إدريس على أدهم، وقتل قدري لهمام، ومقاومة الفتوات لجبل
وقتلة رفاعة والمتآمرون على قاسم،والخائنون لعرفة، ونظار الوقف الذين باعوا
ضمائرهم لمصالحهم الشخصية |
الطغاة الفسدة المستبدون وأعوانهم من أصحاب القوة القمعية ورجال الدين
الذي يسخرون الدين لخدمة الطغاة، ولمكاسبهم المادية. |
الوازع الديني |
الجبلاوي |
سيرة الجبلاوي |
السلطة الدينية |
الشريعة |
الوصايا العشرة |
سيرة الوصايا العشرة |
فتاوى رجال الدين |
هذه الصور
وأطيافها لا يظهرها نجيب محفوظ بهذه الصورة السافرة بل يلفها بخيوط العناصر
السردية التالي:
التوازي
والتشابه.
فالتوازي يظهر بين
صور الأحداث والشخصيات كما رأيناها في المرايا الأربعة المبينة في الجدول السابسق، ونجد التشابه بين كل الشخصيات الخيرة: أدهم وهمام وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة، وبين كل الأشرار:
إدريس وقدري ونظار الوقف والفتوات، والتشابه أيضًأ بين الصور الموجودة في المرايا
الأربعة السابقة، ما حدث في التاريخ من صراع بين قوى الخير وقوى الشر، وما يحدث
مثله في الحكاية، وما يحدث في الواقع المعيش.
التقابل.
كما نجد التقابل
في ثنائيات (الخير ×الشر ) أي (أدهم ×إدريس) (همام ×قدري ) (جبل ×ناظر وفتواته) ( رفاعة
× ناظر الوقف وفتواته) ( قاسم ×ناظر الوقف وفتواته)(عرفة×ناظر الوقف وفتواته)
التوالي
ونجد التوالي يظهر
في الحلقات المتوالية عبر الأجيال، فالحلقة الأولى حكاية أدهم وإدريس، تليها حلقة
همام وقدري، تليها حلقة جبل، ثم حلقة رفاعة، ثم حلقة قاسم، وأخيرًا حلقة عرفة.
التقاطع
وبالمثل فإن التقاطع
يبدو في تداخل الواقعي بالأسطوري،وبين التجريدي والمحسوس، فكل الأحداث عبارة عن
نسيج من خيوط متداخلة من هذه العناصر المتناقضة، فالحدث الواقعي يفسر تفسيرًا
أسطوريًا، فهو يفسر تغلغل الشر في رأس كثيرين من بني آدم بأن قدري بن أدهم تزوج
بنت إدريس وأنجب منها ذرية تتمثل في هذا الفريق من الأبالسة،يقول محفوظ :"
ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا "[2]
ويقول :" كنت أحسب الشر في كوخ إدريس
فإذا به في دمنا نحن " كما أن نجيب محفوظ يفسر الحدث الأسطوري تفسيرأ واقعيًا،
فأميمة زوجة أدهم كانت قريبة أمه السمراء، وأنه رآها أول مرة عندما فوجئ بظلها قد
التحم بظله كأنه خارج من ضلعه، ويصور
المعنى المجرد في صورة محسوسة، فبدلا من وصف ما لاقاه أدهم بعد خروجه من جنة أبية
بالشقاء، صورة على أنه لم يجد عملاً يقتات به إلا أن يعمل بائعًا متجولاً يبيع
الخيار في الحارات والأزقة.
الإيقاع
كما أن الإيقاع
يبدو بوضوح في المقاطع التي يرويها شاعر الربابة،والتي يوردها نجيب محفوظ عقب كل
موجة من موجات الأحداث،لتلخص الأحداث الجارية وتوثقها، أو تروي ما حدث في الماضي
من بطولات عندما تفتقد البطولة وتشتد الحاجة إليها، وهي مقسمة على فصول القصة
تقسيمًا إيقاعيًا منظمًا، ومتجاوبة مع إيقاع الأحداث نفسها.
التناص
و التناص يظهر في
استدعاء معاني بعض الآيات القرآنية مثل قول الله تعالى" إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "30البقرة وقوله تعالى
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"
(27 المائدة) وقوله "قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ " 18 الأعراف،ويبدو التناص
الصرفي والكنائي، في الأسماء بين آدم وأدهم، إبليس وإدريس، هابيل وهمام،قابيل
وقدري، موسى وجبل، قاسم ومحمد.
المفارقة
كما أن المفارقات
تنشأ في الرواية من التناقض الحاد بين ظاهر نظار الوقف وبين حقيقتهم، ففي الظاهر
هم المدافعون عن الوقف ونواب الجبلاوي رمز العدل والخير، وهذا ما تقتضيه وظيفتهم،
أما في الحقيقة فهم لصوص مجرمون يشاركون الفتوات في نهب أموال الوقف وسرقة،في
مقابل أن يحميهم الفتوات بهراواتهم.
التورية
كما نجد أن العلاقة
بين مجمل أحداث الرواية والبعض الاخر، وبين أحداثها وما تشير إليه من دلالات قائم
على على علاقة التورية، فالمعاني القريبة في الرواية ليست هي المقصودة.
دلالات المكان
كما يوظف محفوظ
دلالات المكان، فدائمًا في أول الحارة نجد بيتي رمزي السلطة،على اليمين بيت ناظر
الوقف، وعلى اليسار بيت فتوة الحارة.
العلاقة بين
الشخصيات
بالإضافة إلى كل
ذلك فإن نجيب محفوظ يوظف العلاقة بين الشخصيات في الحارة، إذ يصورها على أنها
علاقة تسلط، قائمة على القهر والاستبداد من جانب من يملكون السلطة وخنوع واستسلام
من جانب أهل الحارة، فهو يقول على لسان زكريا عم قاسم :" في حارتنا إما أن
يكون الرجل فتوة وإما أن يعد قفاه للصفع "[3]
ويقول على لسان صادق رفيق قاسم :" في حارتنا إما أن تكون ضاربًا وإما أن تكون
مضروبًا"[4]
ولذلك فإن كل مصلح يأتي - حتى لو كان نبيًا - لا تستمر دعوته إلا بضعة أعوام ثم
يعود التسلط والقهر كما كان، فليس العلاج في الشدة التي قام بها جبل، وليس في
الرحمة التي كانت جوهر دعوة رفاعة، ولا في الشدة والرحمة معًا كما فعل قاسم، وإنما
العلاج الشافي لداء الحارة موجود عند أبناء الحارة أنفسهم، وهو الذي لخصه قاسم
بقوله :" وبيدكم أنتم إلا يعود الحال كما كان، راقبوا ناظركم،فإذا خان
اعزلوه، وإذا نزع إلى القوة اضربوه، وإذا ادعى فرد أو حي سيادة أدبوه، بهذا تضمنون
ألا ينقلب الحال إلى ما كان "[5].
وبعد
فماذا أراد نجيب
محفوظ أن يقول في رواية أولاد حارتنا ؟ والإجابة على هذا السؤال يسيرة، وهي أنه لم
يرد أن يقول شيئًا، وفي الوقت نفسه أراد أن يقول كل شيء، إنه أراد فقط أن يصنع
عملاً فنيًا يشبه كأس جمشيد، يري فيه كل قارئ صورة للعالم، بشرط واحد وهو أن يكون
هذا القارئ مبصرًا.
[1]انظر إيوار، و ماسيه، جمشيد، ترجمة إبراهيم زكي
خورشد، دائرة المعارف الإسلامية، ص273 ج12 ط دار الشعب، وراجع ديوان حافظ الشيرازي
ص99،ص137،ص460
[2] أولاد حارتنا ص 119
[3] أولاد حارتنا ص 329
[4] الرواية ص 358
تعليقات
إرسال تعليق