عاطف محمد عبد المجيد
(لا تقلق يا محفوظ..لن يقتربوا منك )
لقد رحل نجيب محفوظ جسديًا عن عالمنا ومات فعليًّا لا
إكلينيكيًّا، غير أن أعماله لم تَمُتْ، كما لم يَمُت ذكره، بل ربما يكون ازداد
ذكرًا بعد رحليه، وهذا هو حال المبدع الحقيقي الموهوب، الذي يليق معه لقب الكبير
الذي تظل أعماله مادةً خصبة طوال الوقت، فاتحة صفحاتها لمن يريد أن يكتشف ما بها
من جديد.
مثار دراسة ونقاش
لا تأتي عبقرية نجيب محفوظ من كونه الأديب العربي الوحيد
الذي حصل على نوبل منذ أن فكر الله في خلق الكون وحتى يومنا هذا، بل تأتي عبقريته
من أنه شاء أن يظل هو وأعماله مثار دراسة ونقاش، بين قبول واعتراض.لكنْ هل كان
يتخيل محفوظ أنه سيصبح ذات يوم مادة لنكتة سخيفة يتناقلها الجميع بعد أن طالب أحد
أعضاء مجلس النواب بإعادة محاكمة محفوظ وأعماله؟ مؤكد أنك تضحك
الآن يا صاحب أولاد حارتنا بملء فيك ساخرًا ومتحسرًا على مجتمع عشت أكثر من عشرة
عقود بين ناسه.تتحسر على هؤلاء البسطاء الذين جاء اليوم ليكون نوابهم أمثال هؤلاء،
لا علم ولا فكر، بل سطحية وحماقة لا نظير لها. عن نفسي أعتذر لك أيها النجيب
المحفوظ عما بدر من ذلك الأحمق، ولا تخف من مثل هذه المهاترات.إنني أعدك وبكل ثقة،
أن أحدًا لن يستطيع أن " يِهَوِّب " ناحية قبرك ليقتادك إلى المحكمة
ومنها إلى السجن مباشرة.لا تقلق، بل نم هانئًا قرير العين، وراقب عن كثب ما يحدث
من سجالات ومشاحنات ودراسات حول أعمالك وما تركته وراءك من قيمة أدبية، يصعب على
كثيرين أن يحققوا عُشرًا منها.
مهمة الدين قد
انتهت
النائب الذي طالب أسفل قبة البرلمان بإعادة محاكمة نجيب
محفوظ وأعماله، ربما لا يختلف كثيرًا عن المدعو سيد فرج الذي قال ذات مرة عنه إنه
اختزن أفكارًا حاقدة على الإسلام والمسلمين، رضعها من فكر النصراني الذي كان يُشهر
إلحاده سلامة موسى.لقد حدد نجيب محفوظ موقفه من الدين ومن الإسلام بالذات منذ وقت
باكر حسبما وجّه أستاذه سلامة موسى بأن مهمة الدين قد انتهت، وأن العالم يعيش
دينًا جديداً هو الاشتراكية.هذا هو الفكر المغلوط الذي ينظر إلى المبدع على أنه
عدو للدين، ويُلقي على المبدعين تُهم الكفر والإلحاد من دون بيّنة.يفعل هؤلاء هذا
لأنهم لا يزالون قُصَّرًا في التفكير.ويبدو أن قدَر المبدعين الكبار أن يخرج عليهم
كل حين من يسبهم ويخرجهم من الملة بسبب كتاباتهم التي غالبًا ما يفهمها هؤلاء
فهمًا خاطئًا.وهناك شخص آخر يذكر أن رفيق
نجيب محفوظ خليل عبدالكريم يقول إن روايات
نجيب محفوظ، ما عدا أولاد حارتنا، حفلت بحشد هائل من البغايا والراقصات والقوادين
والديوثيين واللصوص والنشالين والفتوات وصانعي العاهات والمرتشين والملحدين. ويضيف
أن قصص نجيب تقوم على الحط من قدسية الدين وهيبته، ومزج رموزه مع الخمر والجنس
والنساء، وبالذات احترام المومسات، فلا تكاد تخلو قصة من قصصه من المومسات، وقد
حفلت قصصه التي تمثل تاريخ مصر بصور نساء غارقات في الخيانة، ومجتمعات تفوح منها
رائحة الحشيش والإباحة.ويورد عن أنور
الجندي قوله إن الجنس واضح في معظم روايات نجيب محفوظ، شأنه في ذلك شأن إحسان
عبدالقدوس ويوسف السباعي، ولكنه عند محفوظ أشد خطورة؛ فهو يجعله نتيجة للفقر، ولا
يرى للمرأة إذا جاعت إلا طريقًا واحدًا، هو أن تبيع عرضها.
تُرى بعد هذه
الآراء المتطرفة التي تنمّ عن عدم فهم أصحابها لماهية العمل الأدبي، هل نتعجب ممن
ينادون بسجن الكتّاب وحرمانهم من حريتهم، التي كفلها الله لهم، ومصادرة أعمالهم بل
وحرقها في ميدان عام؟ وهل نتعجب حين ينادي برلماني، الله وحده يعلم كيف وصل إلى
عضوية مجلس النواب، بمحاكمة محفوظ هو وأعماله؟ إنه واقع تعيس، للأسف الشديد، الذي
جعل أصدقاء الجهل يتحكمون في مصائر المبدعين.واقع تعيس الذي يجعل شخصًا، ليس ذا
صفة، يفتش في أعماق الكتب عن جملة يقتطعها من سياقها ويتهم كاتبها بالكفر والزندقة
والفجور، وبالتالي يحق له أن يرفع ضده دعوة ربما يُساق بسببها إلى السجن!
حرية التفكير
غير أن محفوظ الذي افترى عليه كثيرون بعدم فهمهم
لأعماله، يُنصفه سلام كاظم فرج في مقال له سمّاه
هل كان نجيب محفوظ كافرًا أم متأملا، يقول فيه: " أثار اهتمامي خبر
مثير عن رسالة تركها أحد منفذي اعتداءات بروكسل الدموية في صندوق من صناديق
القمامة في المطار يقول فيها " لا أعرف ماذا أفعل .." فتذكرت حادثة
الاعتداء على الروائي الكبير نجيب محفوظ قبل سنين.وطعنه من قِبل فتى أمي أجاب
المحققين عن أسباب فعْلته من ضمن عدة أجوبة أنه لم يقرأ أية رواية لمحفوظ، بل إنه
لا يجيد القراءة ولا الكتابة.. وإن أحد الشيوخ حدثه عن بعض دلالات روايات
محفوظ..بمعنى أنه جازف بحياته ومصيره ومستقبله اعتمادًا على تحليل قد يكون خاطئًا
أو مفتريًا لرجل دين لا يفهم ما تعنيه الرمزية في الأدب، ولم يسمع بشيء اسمه حرية
الفكر وحرية التفكير، ولا تعنيه موضوعية الإبداع في الأدب والفن..ولا يعرف شيئًا
عن التورية والمجاز والترميز..في حين إن الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم زاخرة
بالرموز والتوريات والمجازات وحافلة بالحوارات الجميلة بين شخوص كثر..كحوار الله
والملائكة..وحوار الله وإبليس.. وحوار فرعون وموسى.وسليمان وبلقيس..وبلقيس وطاقمها
الحكومي والاستشاري. كاظم يذكر كذلك أنه فى محاورة شيقة بين رجاء النقاش والكاتب
الكبير نجيب محفوظ يعلن محفوظ عن تعاطفه الشديد مع الماركسيين رغم توكيده أنه ليس
ماركسيا.النقاش يسأله: إن الماركسيين في رواياتك هم الأبطال والشهداء وحاملو
الزهور الحمراء وهم الذين يضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات...وأحيانًا يبدو
نقدك لهم نقد" العشم..أي أن مسارك السياسي امتد من الوفدية إلى الماركسية،
فهل أنا مصيب في ظني ؟ فيجيبه محفوظ : لقد شخّصتني فأجدت التشخيص، فأنا لست
ماركسيًّا رغم التعاطف الشديد ولكي أكون واضحًا أكثر أعترف بأنني مؤمن بتحرير
الإنسان من الطبقية وما يتبعها من امتيازات...والاستغلال بكافة أنواعه.
لم يكن كاتبًا عاديًّا
وهنا أكرر ما كتبته من قبل أنني سأظل مندهشًا طوال حياتي
مارًّا على حياة نجيب محفوظ وإبداعه، درجة أني أحسده في كثير من الأحيان على ما
وصل إليه من نظامٍ حياتي، واظبَ عليه إلى أن فارق الحياة.وسيظل هو أيقونة عبقرية
لمن يريد أن يستثمر كل لحظات حياته، دون أن يُضيّع منها لحظة واحدة فيما لا يفيد،
إذ كان محفوظ النوبليّ الوحيد في مجال الأدب العربي، مثالا يُحتذى به في ترتيب
وتنظيم وقته، مقسمًا وقته ما بين وظيفته وكتابته الإبداعية، دون أن تطغى إحداهما
على الأخرى.كذلك لا ينبغي أن نحتفل به مرة أو مرتين في العام، بمناسبة عيد ميلاده
ووفاته، بل علينا أن نستفيد من سيرته وحياته، على المستوى الشخصي والمستوى
الإبداعي، خاصة وأنه لم يكن كاتبًا عاديًّا، ولم يكن أديبًا منشغلا بأشيائه الخاصة
عن المجتمع الذي يعيش فيه، بل على العكس إذ سلط الضوء على ساكني الحواري والأزقة
جاعلا إياهم أبطالا في رواياته وقصصه.
تعليقات
إرسال تعليق