"العـــودة" - ســليمان فيــاض



قال لأخته: أعطيني المفتاح، أريد زيارة أمي.. عادت إليه بالمفتاح، فأخذه وانصرف، غادر المتروودخل في الحي العاشر. قادته قدماه عبر منعطفات قديمة، تصعد به الطريق وتنزل. وتوقفأمام الباب.. دس المفتاح في القفل، ونزع القفل المفتوح من قيده، ودفع بالباب الحديد وراءه،وأعاد القفل إليه، وأغلقه، نظر إلى أعلى، كانت السماء قريبة غاية القرب، والأرض يكسوهاالبلاط وثمة قائمان من الحديد في الركن، يحده جدران من قماش.

في ركن آخر، رأي حجرًا صلداً، فأخذه كأن كل شيء كان معداً له، أخذ يكسر به ألواحالأسمنت، من الجوانب، فوق الدرج، ونزع لوحاً رفعه فوق لوح آخر، وأخذ يهبط بالدرج.

إذ صار رأسه بمستوى الألواح، أوقد شمعة، وفرد كفيه إلى أعلى، وأعاد اللوح الأسمنتس إلىمكانه. حمل الشمعة، وأخذ يهبط الدرج، فاحتواه الظلام، وكفت شعلة الشمعة عن التراقص،وزكمت أنفه بروائح هواء حبيس، وظلام مقيم، وعفن.

أدار الضوء حوله حتى رآها، هيكلا من العظم، قد رم وتفسخ في غير اتساق، رأى الهيكليكسى في ضوء الشمعة الساكن لحما، والوجه الذى يعرفه يتجسد، وعلى الشفتين بسمة، وفيالعينين لمحة، وسمع صوتها يهمس له: تعال.

تمدد بجوارها، والتفت بوجهه نحو الهيكل، رأى العينين فجوتين، والفكين بلا أسنان، والخدينهاويتين، وأخرج مسدساً من جيبه، وضع فوهة المسدس على ودجه في الوسط تماما بين الأذنوالعين، ونفخ الشمعة فانطفأت، وألقى بها في الظلمة ثم ضغط على الزناد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة العودة من المجموعة القصصية(ذات العيون العسلية) 1992,الهيئة المصرية العامة للكتاب


قراءة نقدية: وسام جنيدي





لعل الجميع خاصة من أبناء جيل سليمان فياض لم يدرك أنه كاتب قصة في المقام الأول،حتىقصته (أصوات) الأكثر شهرة في كتابات فياض، هي قصة قصيرة وان جاز لنا الرأي قد تكون(نوفيلا) المنطقة الواقعة بين الرواية والقصة القصيرة التى اتخذت حديثا اسم النوفيلا، حتى أندكتور على الراعي قد ضمها إلى كتابه الشهير (الرواية في الوطن العربي) مما أعطاهاشرعية أن تكون رواية على الرغم من أن أغلب النقاد والقراء اعتبروها قصة قصيرة، كل هذا لأنببساطة شديدة، سليمان فياض كان فياضا في كتابة القصة،يسهب ويدور ويناور في نفسالطريق وهو ما كان متجليا في قصة (أصوات) لتعدد الرواة للموقف الواحد ورؤى النظرالمتعددة في مقتل الزوجة الفرنسية في القصة، ولكن على النقيض في قصة (العودة). نجدهامكثفة ،مختزلة،تعتمد على المشهدية التي استفاض فياض في وصفها على الرغم من قلةالكلمات مثل (أوقد شمعة، وفرد كفيه إلى أعلى، وأعاد اللوح الأسمنتى إلى مكانه. حملالشمعة، وأخذ يهبط الدرج، فاحتواه الظلام، وكفت شعلة الشمعة عن التراقص وزكمت أنفهبروائح هواء حبيس، وظلام مقيم، وعفن)،فالقارئ بمنتهى السلاسة قد يصل في منتصفالقصة أن البطل سيقوم بقتل نفسه في أحضان أمه مع القليل من العصف الذهني مع العنوانالدال(العودة) ولكن لن يستطيع التنبؤ بوقت وصوله خاصة مع أسلوب فياض المعتمد فيالإغراق في مشهدية القصة ليدفع القارئ إلى التخيل المتعمد،أسلوب فياض في تلك القصةأميل الى الواقعية السحرية لآبائها في امريكا اللا تينية (خوان رولفو) و(جابريل جارسياماركييز) ما تتمنى ان يحدث ولكنه لا يحدث (رأى الهيكل يكسى في ضوء الشمعة الساكنلحما، والوجه الذي يعرفه يتجسد، وعلى الشفتين بسمة، وفي العينين لمحة، وسمع صوتهايهمس له: تعال) ولكن دائماً بأسلوب فياض الذي يتمتع أبطال قصصه دائماً وأبدا بفكرةالهزيمة، ولكن في تلك المرة،هزيمة محببة وهي العودة الى أحضان الأم حتى ولو كان بالموت،

اهتم فياض بالفصل في المشهدية التي كان أبناء جيله يعتبرها عيبًا في كتاباته بجانب زيادةحروف العطف والهمزات والنقاط في قصص فياض ولكن في تلك المرة لم تكن بغير داع وأثارت الخيال أكثر مثل مشهد موته، ومكان وضع مسدسه الذي لا يحمل دلالة سوى للوصفالمشهدي لا أكثر مع دلالة كلمة ودج أنه لن يتراجع لان ضرب الرصاص في الودج مميت لاإنقاذ له ( وأخرج مسدسا من جيبه، وضع فوهة المسدس على ودجه في الوسط تماما بين الأذنوالعين)


نبذة عن المؤلف/ إعداد وسام جنيدي

أصدر سليمان فياض تسع مجموعات من القصص القصيرة كانت أولها عام 1961، وخمسقصص طويلة أو روايات قصيرة هي: أصوات، والصورة والظل، والفلاح الفصيح، والقرين، ولاأحد. إلى جانب إصداره أكثر من عشرين كتابا في سلسلة السير الأدبية التاريخية العلميةللناشئين التى صدرت معظمها عن مركز الترجمة والنشر بالأهرام.

هذا إلى جانب إنتاجه اللغوى حيث أصدر كتابه "حقول الدلالات الصرفية" عام 1989، وأربعةمعاجم هي: معجم الأفعال الثلاثية المعاصرة، ومعجم المأثورات اللغوية والتعابير الأدبية،والقسم الأول من أنظمة تصريف الأفعال العربية ويتعرض للأفعال الثلاثية، والدليل اللغوى وهومعجم وجيز في الأدوات والتراكيب الكتابية. أما مجموعاته القصصية فهي على التوالي:عطشان يا صبايا (1961)، وبعدنا الطوفان (1968)، أحزان حزيران (1969)، العيون(1972)، زمن الصمت والضباب (1974)، وفاة عامل مطبعة (1983)، الذئبة (1989)، المثقفونأو وجوه من الذاكرة (1992)، ذات العيون العسلية (1992).

تعليقات